الفصل 08:هجرة بلا وجهة

17 3 2
                                    

بين الجبال العالية والسهول الواسعة التي تلج بينها وديان ذات مياه عذبة تتدفق في كل مكان لتجعل الأرض تُنبت وتلبس حلة خضراء خلابة.

وحيث لم يكن ليخطر ببال أحدٍ وجود أثرٍ للبشر هناك
تربعت قرية صغيرة على أحد السهول منذ زمن بعيد.
كان صوت الأطفال عاليا في الأرجاء طول الوقت فالصمت شيئ غريب عن هذه القرية، ويقارب عدد سكانها خمسمائة فرد عاشوا في هذا المكان منذ وقت طويل،يعتمدون في حياتهم على ما تنبته الأرض و على تربية الحيوانات وجلب المياه من الوديان التي ليست ببعيدة عن مكان سكنهم.

ووجود قرية هناك هو شيئ غريب حقا،فهي موجودة في أحضان الجبال شمال الهند في منطقة معزولة تماما عن البشر.

كان في القرية شيخٌ طاعن في السن بمثابة الأب لجميع أبناء القرية،فيستشيرونه في جميع أعمالهم ويكون الحاكم و الفاصل في جميع الخلافات،و المحبة بين هؤلاء الأفراد جعلت منهم قوما سعيدا للغاية بعيدا عن مشاكل البشر الآخرين.

يوما تلو الآخر لاحظ أبناء القرية قلة الأمطار و جفاف الأرض مما سيسبب نقصا في المحاصيل الزراعية ومنه نقص الغذاء لهذا قاموا بحفر عدة آبار في المنطقة لكن هذا لم يكن كافيا فلم يقدرو على استخراج الماء الكافي منها.
كان التغير الحادث في المناخ واضحا و الجميع قد علم بذلك،لكن ما لم يتوقعه أحد هو أن تسوء الأحوال إلى درجة كبيرة.

مرت عدة سنوات ولم تنزل من السماء قطرة واحدة،وجفت الأرض و لم تعد تنبت سنبلة قمح واحدة هذا الأمر الذي جعل سكان القرية في حيرة من أمرهم
أخبروا الشيخ كبير القرية مرات كثيرة بضرورة الترحال من المنطقة لعدم صلاحها للعيش بعد الآن لكنه كان رافضا لهذا و قرر عدم الرحيل نظرا لأن هذا المكان هو مسقط رأسهم ولا يمكن أن يتخلو عنه أبدًا
و بما أنه كبير القرية فقد امتثل الجميع لكلامه و بقوا يصارعون الحياة في تلك الظروف السيئة.

شرعت الأمراض في الظهور عليهم و التفشي بينهم بسرعة،كما خارت قوى أبدان العديد منهم لعدم توفر الغذاء الكافي ومع هذا بقي كبير القرية مصمما على قراره بعدم الرحيل.

اجتمع بعض الأفراد ذات ليلة على طاولة واحدة يتناقشون حول أحوالهم وما يجب فعله و خرجوا بقرارٍ أن يرحلوا بأنفسهم،فمن شاء القدوم فليأتي ومن رفض و عارض فلن يكون عائقا أمامهم بل سيتخلون عنه ويمضون في طريقهم.

في فجر اليوم التالي تآلف جَمعٌ مِمّن أوجبوا بضرورة الرحيل و هم جاهزون للمغادرة، و العجيب أن لم يكن عددهم كبيرا فقد كانو ثلاثين شخصا فقط لكن صمموا على هدفهم ولن يوقفهم شيئ
تزودوا بالزاد و الماء و حملوا ما قد يفيدهم في رحلتهم وودعوا إخوانهم ومضوا في طريقهم.

كانوا يسيرون فوق حقل قاحل و تمرّ بذاكرتهم كل لحظة سعيدة عاشوها في هذا المكان وكيف كان المكان أخضرا و خلابا لكن تلك الصورة لن تعود بل ستبقى في أنفسهم تعزيهم للأبد.

حتى إذ صعدوا على قمة الجبل الأول حتى لاحت أمام أعينهم جمعٌ من الجبال العالية التي يبدو أنهم لن يجتازوها بسهولة أبدا،كانت تلك آخر لحظة يمكنهم العدول عن قرارهم فيها و العودة فلا مجال للرجوع بعد ذلك،لكنهم ودعوا قريتهم بآخر نظرة من بعيد ومشوا في طريق لا يعلمون وجههتهم ولا ماينتظرهم.

مرت عدة ليالي، وقد أدركوا نقصا في الغذاء كما أن أجسادهم تُرهق بشكل فضيع.
كانت الرياح تعصف بهم أحيانا كثيرة فيجعلون من الكهوف في الجبال مأوى لهم ثم يكملون مسيرهم بعد ركودها،قابلوا في طريقهم العُجاب من الحيوانات و النباتات التي لم تر أعينهم قَط،وكانت أفضل لحظاتهم عند عثورهم على نبع من الماء او بعض الأشجار المثمرة فيتوقفوا عندها ليسترجعوا عافيتهم.

تلك الأيام التي كانت تمر بسرعة صارت شهورا،وكانوا ينامون في العراء وقد توسدو الصخورَ،وكل من كان ليراهم على تلك الحال لن يكون بهم فخورا، فوضعهم لا يطاق ومنهم من اعتلّ داءً ليس له دواء .

كانت إحدى الأمهات تضم ابنها الذي لا يتعدى عمره السنتين إلى صدرها وصوت بكائه يرتفع كل مرة فهو يتضور جوعا وبقاءه حيّا حتى تلك اللحظة لهو معجزة بحد ذاتها فقد قست الطبيعة عليهم أشد قسوة،وكان معهم أحد كبار السن الذي كان يطلب من القافلة أن يتوقفوا للراحة كثيرا حتى أدرك أنه لا يمكنه متابعة المسير،طلب منهم في إحدى المرات التوقف لأخذ قسط من الراحة وقد كان يعلم أن هذا آخر ما يفعله في حياته.
اتكأ على إحدى الصخور مسندا ظهره أليها ممسكا بين يديه قلادة ثمينة محفور عليها اسم ابنته التي ماتت بسبب المرض منذ زمن بعيد،ذرف بعض الدموع والتي كانت اشتياقا لابنته وقد تمنى أن يكون وجهها آخر شيئ يراه قبل أن يرحل،أغمض عينيه بكل هدوء ورمى بكل التعب الذي كان عليه للأبد.
ملامح وجهه لم تكن لشخص راضٍ عن نفسه أبدا،لقد مات ولم يبلغ مراده في أن يكون مع ابنته في آخر لحظاته،وقد كان أول الراحلين من المجموعة،حزنوا لأجله و دفنوه في تلك المنطقة وتابعوا.

ربما كان اغلب من بالمجموعة نادمين على فعلتهم وتمنوا لو بقو في القرية،لكن شابّا منهم قد دُمّر قلبه من شدة الندم على هذه الرحلة،فقد ترك من كان يحب خلفه في القرية، والتي كان سيتقدم لها بعد فترة قصيرة،ظلّ يفكر طول الطريق فيما قد تكون تفعله الآن وتمنى لو يكون بجانبها ولو لوقت بسيط يخبرها عن حبه و هواه لها،لم يكن قادرا على فعل شيئ سوى استرجاع صورتها في مخيلته حتى أنه بدأ بالتحدث مع صورتها في عقله.

مرت الآن شهورٌ كاملة وقد توفى منهم تسعة أفراد، أما من بقي على قيد الحياة فهو شبه ميّتٍ أيضا،كان وضعهم لا يُحتمل ومسألة موتهم مجرد وقت فقط.كانوا متوقفين للراحة كعادتهم ولا أحداث جديدة،أصبحت حياتهم مشهدا يعاد كل يوم أمام أعينهم.
وهم جالسون في مكان راحتهم جاء شخص يهرع لاهثا كان قد ذهب للتجوال لعله يلقى شيئا،وصل إليهم وأنفاسه تتقطع فاجتمعوا حوله يرون ما أصابه فصاح أنه وجد قرية تلوح في الأفق،لم يصدقوه لكنه أكّد لهم بأنه ليس سرابا ولا وحيا من الخيال إنما هي قرية كبيرة تُرى من أبعد الأماكن.
ظهرت الفرحة على وجوه الجميع وعادت الحياة إليهم وجعلوا تلك القرية مقصدهم الموالي.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: May 07 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

أركادياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن