الكذبة الواهية

14 0 0
                                    

4 مايو 1968
عزيزي
عبد الجواد

بلا مقدمات أو دباجات مسقمة فلا أكثر من الدباجات المعسولة الخالية من المعني و الروح في عصرنا هذا يا عزيزي
لقد حلمت بك ، حلما في زمان ما عاد فيه للأحلام الطيبة معنى يا جود الحب علي ، و رغم الفراق الذي كنت أنا فيه المطالبة و رغم هذه الفجوة بيننا , بعد عام قارب علي الاكتمال من فقدان أثرك إثر حرب النكسة الملعونة سارعت بكتابة هذه الكلمات أملا في إرسالها إليك
و كنت كلما حلمت حلما أنت فيه توجست في صحتك القلق فإني لم أفقد الإيمان أبدا في أنك نجوت من هذه الحرب فقد كنت دائما تملك الحل للصعاب و لا أخفي عنك أنني و في قلة قليلة من الأيام كنت أفقد الأمل و يعتريني الشك في أنك قد فارقتنا إلي أن نلقاك نحن في دار الحق و لكن سرعان ما كنت أرد شبهاتي و أتشبث بإيماني راسخ الأساس في أنك كنت من الناجين
بعد أن غادرت أنا و جدتي مع والدتك و أختيك لنلحق بأعمامك في محافظة البحيرة و مع جهلنا بنجاتك من براثن الموت قدرنا أنه من المعقول أن تلحق أنت بنا حينما تتيسر الأمور لكن غيابك طال حتي هُجر كل سكان مدن القناة في مطلع هذا العام إلا تلك القلة المستبقين و التي دعوت و أدعوا أن يقدر الله أنك منها وهذا لأمران أولهما أن يطيب الله قلوبنا بهذا و يريحنا من القلق عليك و يشعل القلوب التي قد انطفئت أمالها في عودتك و ثانيهما أني لطالما عهدتك هكذا راسخا قويا لا تترك جانب الحق حتي و إن خاطرت بكل ما تملك فداء ذلك
وكما كنت أقول فإني أسألك بكل ما في الكون الفسيح أن نعيد أمورنا إلي سابق عهدها فأنا لا طاقة لي بما قلت و أنت و إن كنت تبلغ عنا من البعد ألاف الأميال لا يقسو علي إلا انك بعيد عن قلبي وأنك تظن النهاية لقصة نحن أبطالها هي كما زعمت أنا نهاية مأساوية ككل حكاية علي هذه الشاكلة في أرض الواقع لا كحب أرض الكتب و الروايات يدوم مدي الحياة ، عشق و أن حتي كان مصيره الفراق يدوم في القلب مستعرا حتي الفناء حب حسب ما قلت أنا لا يتولد إلا بين المجانين و أنا أعلم ما طالبت به خوفا من التعلق المفسد للحياة و سوء الأوضاع لكن كنت المحق و كان جهادك في سبيل ترك الغد للغد يقرر مصيره هو الصواب فأسألك حبنا الصافي ليزيح عنا تنكيل عصرٍ أثخنته الهزائم بالجراح ليكون بمثابة انتصارٍ نرجو من بعده توالي الانتصارات وما كنت طلبت هذا إلا لمعرفتي بمقدار حبك لي و معرفتي ها أنا بمقدار حبي لك
عائشة
ملاحظة :-
أعلم أن هذه الرسالة لما تصلك ستصل متأخرةً كثيرا فكل هذا, من حرارة اللقى و من وجد النوى ما من الطبيعي أن يكون بعد قصص و قصص عن رحلتنا
لكن لما عزمت علي أن أرسل هذه الرسائل آثرت أن أرسل ما سبقها من حوادث و كان قد حصل الكثير فأجلتها , ظني أن ما صار و ترتيبه في عقلك حينما أقصه عليك في رسالاتي يعطيك تصورا عن ما في نفسي تغير وعن حكمة في الطريق أضحت دافعا
فألتمس سببا للعودة و عذرا عن ما سبق من أذي

طُويت الرسالة بحساسية وعناية فائقة و كان طاويها الذي حمل بيده الأخرى صحنًا كان علي مكتبه ، به شمعةٌ كانت قد قاربت علي الانتهاء ، هي زاده من الضياء مع ما تسلل له من خيوط ضوء الشمس من نوافذه المغلقة ليسهل علي حاله القراءة و دس الرسالة أسفله (أسفل الصحن) مع بضع وريقات أخرى كان قد جعل الصحن بمثابة ثقالة لها و خلع نظارته و ألقي بها في حنو أمامه علي المكتب قد اخفت يديه و هو يفرك محجر عينيه و جبينه و أعلي منخاريه معالم وجهه حتي إذا ما بانت يديه عن وجهه حتي رأيت عينًا عسلية اللون دُريةً توجت أبحرا من سواد تحتها ، يتبعها أنفٌ أقني الهيئة محدب القصبة تحدبا هيننا ضيق الفم عريض الفك أملس الوجه إلا من شارب كث الشعر ضَيقٌ ضِيقَ فمه و من ثم عادت يداه لوجهه ليعلق نظارته علي انفه و يدفعها في تأنيٍ إلي أن تستقر و تثبت و يهم واقفا ويميل بجسده ليخرج أنفاسه دفعات دفعات ليطفئ شمسه الصغيرة تلك يمد يده إلي موضع في مكتبه لطالما ألفه و إن كان لا يراه ليخرج منه كتاب ثقابه وعلبة سجائره و قد تبين بعض ما كتب عليها من كلمة كيلوبترا بصعوبة بالغة و أزاح كرسيه من الطريق و توجه بخطيً متثاقلة مترنحه صوب بؤرة من بؤر خيوط الشمس القليلة في غرفة مكتبه ، كان يتوجه صوب باب شرفة غرفته و كان قد رفع يده ليفض قفل باب الشرفة ومن ثم دفعه للخارج لتندفع جيوش الشمس المضيئة الحارقة إلي داخل عينية قبل غرفته مما أجبره علي ضم يديه علي وجهه ليحجب ضوء الشمس عن عينيه جراء ما أصابه من التعرض المفاجئ لأشعتها من عدم الراحة والألم الخفيف المفاجئ ليدير ظهره لباب الشرفة و يرفع نظارته إلي أعلي رأسه و يفرك عينيه من جديد لكن بنشاط أكثر و ضغط أكبر علي جفنيه و مقلتي عينه ليسكنها و يقتل حكتها حتي إذا ما أنتهي رفع يديه و انزل نظارته و التف ببطيء شديد و ريبة و خرج إلي الشرفة فَرِدًا بنفسه بعيدً عن ظلماء أفكاره تلك التي لم تتركه وحده حتي مخافة ضوء الشمس و إنما انتهزت فرصة اتكاءه بمرفقيه علي حافة جدار الشرفة و شروده لوهلةٍ لتباغته بالهجوم حتي تنبئ بهجومها فعمل علي ردها مفكرا في سيجارته الوحيدة مخرجا إياهما من دارها ليثبتها علي طرف شفته عابثا في كتاب ثقابه محاولا إشعال أحد أعواده ليشعل تلك السيجارة و بعد نزاع و شد و جذب مع الريح ظفر بسيجارته المشتعلة ليقع مرة أخري في فخ أفكاره المرتسمة علي أسطح دفقات دخان السيجارة المتطايرة حتي يجد أنه لا بد و لا مفر من أن يجاوبها و يجاوب نفسه و عائشة معهما عم قد سبق و طرح من حديث أو أسئلة حبه مجهول المصير ذاك المنعوت بحب المجانين و إمكانيات ما كان منه , ليشعر بتلك الرعشة تسري في حناياه كلها جراء قطرات المياه المتساقطة علي قفاه و رأسه حليق الشعر , كان حسبها في أول الأمر بضع قطرات من ندي الصباح , زادت القطرات وتيرتها وحدتها , رفع رأسه لينظر إلي السماء ليتبين من أمرها شيئا فإذ هي تمطر.....تمطر بشدة حتي كادت أن تغرقه

نظرت عائشة إلي كتابها لتجد عبراتها تلك ا لمتساقطة باضطراد محت أسطرا مما كتبت فجففت بطرف كمها عيناها و برفق دموعها من علي الوريقات التي أمامها و جلست تكتب من جديد ما كان قد محي "فإني لم أفقد الإيمان أبدا في أنك نجوت من هذه الحرب فقد كنت دائما"
حتي انتهت منه و طوت كتابها , متخبطة كفاية لتسقط مرة أخري في مجلسها بعد قيامها زائغة الأعين متسارعة الخطى لتصل إلي سريرٍ, رفعت و بشيء من الصعوبة فراشه فتري أنت أيها المراقب من بعيد من خبيئة الأوراق تحتها كنزا تُرمى معهم رسالة أسيرة و يترك الفراش ليخبئهم عن الأعين من جديد , لتغادر عائشة ماسحة عبرة وليدة كانت قد ألتمت في عينيها

تمت بحمد الله

الأغوارحيث تعيش القصص. اكتشف الآن