ملاك الرحمة

14 0 0
                                    

خرج محمد عبد المعين الممرض في مستشفى " مصابني " الخاص من استراحة الممرضين متشابك الأقدام عاثر الخطى لا يكاد يقدم رجل علي الأخرى ليسرع مهرولا حتي يختل ، منتحب الملامح ندىَّ الجبين زادت سنوات عمره الخمس و الأربعون التي ما بلغها من زمن بعيد ، لتصير؛ من شحوبه و تحزبات جعد وجهه .. قل ألفا من السنين و قد غزا الشيب رأسه _ ما نجي منه بعد الصلع علي الأقل _ علي غير ما كان من ست أشهر فقط , في أول مرة خطت قدمه في هذه المستشفى ، يتبين كل من يراه ممصوص الألوان مطأطئ الرأس حتي لَيبدو في خطواته و كأنه يجر جبينه علي الأرض جرا أنه في طريقه إلي عبد الحليم حبيب رئيس قسم الجراحة في المستشفى و الذي له رئاسة نفس القسم في جامعة "عيون الشرق" ، وقف في ممر الجانب من رواق مكاتب المدراء أمام مكتب دكتور عبد الحليم مسقطا حمل جسده علي الجدار متقطع الأنفاس لاهثا لهث من سُرق الهواء من رئتيه ، يصفع صدغيه بوجه كفيه ليرسم بعض الحمرة علي وجهه محركا الدورة الدموية فيه ، أحس بالبلل غطى أصابعه و سال علي باطن يديه ، مد يده المبتلة الراعشه لجيب بنطال بدلة التمريض الزرقاء (سكراب) و أخرج منديلا قماشيا فض طيته و جفف وجهه و رأسه و عاود دسه بلا طي في جيبه ليُسحب مرة أخري مع يده و يسقط علي الأرض رفع محمد جسده عن الجدار لينحني ملتقطا المنديل ليضعه في جيب قميص بدلته هذه المرة .
رفع بنطاله و شد قميصه معدلا مظهره و هندامه و طرق الباب في وجل....
_ادخل ، جاءت بعد لحظات من وراء الباب المغلق مفعمة بعنفوان صارمٍ ناشزةً عن ما طفق إلي الأجواء من الفتور المالئ لجوف محمد
طرق الباب مرة أخري ، فاتحا إياه بالجانب فلا يكون منه مقابلا لداخل المكتب إلا جانب جسده و وجهٌ حوله ناحية الرواق و أعينَ من زجاج لا تري
جاءه صوتٌ ثانٍ مُصطَنع لهجة رئيس ، اعتدل ، أجفل لثوانٍ ثم بريبة أدار وجهه ناحية الغرفة _غير محرك وضع جسده_ ليجد دكتور عبد الحليم علي مكتبه غير مبد لاعتراض علي اعتداله و يلمح في جانب الغرفة خيالات متحركة لم يتبين لمن ؛ فهو لا يجسر أن يحرك عينيه في الغرفة بطيش قد يهين الدكتور و يثير حفيظته ، فتبسم ملئ شدقيه و ألحق جسده بوجهه ليواجه داخل الغرفة و تقدم بخطى لا تقل عنه فتورا بأي حال فما جاوز عتب الباب بقدمين اثنين حتي وقف ، بصوت مترجرج متراقص الطبقات لا يكاد يخرج من حلقه
_صباح الخير يا دكتور، طلبتني
وفجأة زأر عبد الحليم و دق المكتب بيده
_ أنت هتنقطني تعال يا ابن المره و إقفل الباب وراك
استدار محمد ليغلق الباب من خلفه و قبل أن يعي ....... طاخ! هوت يد الدكتور بكير الذي كان في ركن الغرفة_و هو أحد أقرباء الدكتور عبدالحليم بطريقة ما فيكون ابن عمة خالته أو ابن خالة عمته_ علي صلعة محمد و آخر عنقه ، انتفض لتُشَد كل عضلة في جسده و سرت فيه رعشة وانكمش وجهه فوق انكماشه لكن سرعان ما بدل شفته المزمومة بابتسامة أخاذه تمرن ليال و ليال علي حبكها و تجاهل الصفعة كأن لم تكن و في صمت أكمل مأموريته مقفلا الباب و تقدم لمنتصف الغرفة أمام مكتب عبد الحليم مباشرة و مال إلي الأمام و تنحنح قائلا بصوت أقرب للهمس
_حضرتك تؤمر بشيء تاني
قام عبد الحليم من مجلسه واقفا متعوج القوام محني الظهر متقدم الكتفين ، خلع سترة حلته مرتج البدن_ فهو ضخم عريض رغم تقوقع جسده الذي أورثه له الكبر مع شيء من البضاضة _ و ألقي بها علي ظهر كرسيه ،أمسك عصاه المُسندة علي سطح المكتب متكئا عليها ملقيا بعض الحمل عن كاهله و سار نحو محمد بتؤدة قائلا بصوت خفيض لم يسلبه إرهابه فعلامات كبح الغيظ لا يبدو علي وجهه أكثر منها
_ مزعل دكتور بكير منك كدا ليه....عارف أنا جالي كام شكوي و مع ذلك....إني أستدعيك تاني معملتش كدا أبدا....أبدا مراعاه مني لوعد بينا بالشغل بإخلاص ها..... بتراعيه ، السؤال لضميرك لأن أنا قناعتي مش كدا أبدا....أبدا
أنصت محمد ممسكا لسانه عن الكلام حتي يؤذن له متابعا حركة عبد الحليم المتأنية حتي وصله لا يفصل بينهما مقدار كلمة رفع يده الحرة من العصا و أسندها علي صدغ محمد مربتا عليه تربيتا خفيفا مُكْملا
_ ماكنتش هستدعيك علي فكرة ، رغم كل الشكاوي كنت هجازيك في المرتب إن كانت الشكاوي صح طبعا و خلاص ، لكن اللي حصل مع مختار غيَّر كل شيء تمام, أصل.... مختار أصدق الأصدقاء لبناتي لزوجتي لعائلتي كلها يعني ابني, أقصد أنت متبصلوش خالص بصة استصغار، عينك متقابلش عينه أصلا و لو صدفه لو يقولك أنت ابن.... و ابن....و ابن.... ترد...آمين ، قاعد قدامك أهو لا صوت ، لا حركة و لا حس مؤدب أكتر من بشر كتير، همج كتير، لكن تقول إيه ، فلما مختار يزعل منك و يكون مكسور الخاطر بالشكل ده أنا لا أملك إلا إني أبعت أجيبك و أعرفك غلطك ، أه..... أرجع وري شويه كدا خلي مساحه للنفس حتي
ما كاد محمد أن يخطو للوراء خطوتان لتدمع بالدماء و تصفر أذنه من عصا عبد الحليم النازلة عليها كالبرق, تأوه تأوها بسيطا فمن صعق المفاجئة ما ملك أن يكبح ردات فعل ألمه الطبيعية ، أمسك محمد منديله القماشي ليكظم به نزف أذنه، لتقع الثانية علي كتفه _لترد يده لموضعها ويفترش منديله الأرض_ كفأس يشق في صخر محدثا قرقعة لا تعلوها إلا قرقعة عبد الحليم الصائحةُ حنقا من مقاطعته
_مفيش تحضر، آداب حوار، أخلاقيات، شيء من الاحترام أقله للقمة عيشك، لفرق السن مش لشخصي أنا ، أنا كمان أصغر من أني أملي عينك
و راح صمت يغلف المكان إلا من همهمات ألم خفيضة _لا تعلو حنجرة محمد_ و هو يحاول شد كتفه بعضلاته ليهبه شيء من التدليك دون تحريك يديه أو لمسه ، صرير الأرض الخشبية ، وقع الخطوات الخافتة عليها من خلفه رائحةً غاديةً ، لحظات صمت تتوسع و تتوسع حتي تكاد تبتلع اليوم ظنها إيذانا بالانتهاء ، ضربتان مدميتان و كم صفعه ثمن بخس لينجو من بين يديّ ذاك المتجبر مدعي المراعاة
التفت بكير إلي الدكتور عبد الحليم و قد اكتسي وجهه بابتسامة عريضة وكلمات مختلجه بالضحكات المُهمهمه
_أجيب الطلب يا دكتور
يحرك دكتور عبد الحليم يده في الهواء حركة هَينه غير بادية الحماسة
_هاته...هاته ، ليتبع هذه الكلمات فورا خطوات قوية جازمة من بكير ناحية دولاب حديدي صغير بجوار المكتبة في يمين الغرفة ، صرير باب الدولاب الحديدي غير المشحم ، العرق البارد المنعقد علي جبين محمد المنساب لعينهِ ، كَدَسُ رعبه الفضولي من أن يلحق بكير بعينيه يطفح علي محياه حرارة ، تطرف عينه طرفا هينا و تتحول مقلتيه لا أكثر لتري عبث بكير في درج صغير في أسفل الدولاب تلتقط أذنه السليمة هسهسات تذعره وترهف حواسه الذي عَرَاها التعب ليدير وجهه ليري صاحب الهسهسات الخارج من الدرج ، يشعر بثقل من نوع خاص ، ثقل نمر ينقض علي فريسته (إنها العصا) جالت في خاطره الكلمة
لقد حفظ ذاك الثقل الخاص ، يشعر بسخونة مقبضها العاجي علي رقبته يشده و كلمات عبد الحليم الأقرب إلي زفرة طويلة
_ هنا.... ركز هنا.....ملكش دعوة ببكير خليه يلعب هو مبسوط كدا ، ليه ساعات و ساعات بيفكر في طريقه كويسة تساعدنا عشان نصالح مختار و نسليه بالمرة
أنا رأيي سلام جمهوري عظيم و تحيه عسكريه و لا أروع كاعتذار عن عدم اهتمامك كفاية ، عن سوء كتير منك لمختار....عن سوء كتير وعدم التزام ، بس ده بند من البنود ، أنا أكون ظالم باخس مختار حقه لو معتذرتش عن كل واحد لوحده هنا كان رأي بكير أنه لازم نقيس درجة ولاءك درجة اهتمامك بالأوامر كل أمر تنفذه يشيل بند مع علي كتافك بس لو منفذتش
تدوي صرخة متفجرة ناشرة نثار الريق في وجه عبد الحليم و جسد محمد يتهاوى ساقطا علي ركبتيه متهدل الفاه يتساقط الزبد منه و يتعالى من خلفه صوت قهقهات عالية مغبوطة تخرج بينها كلمات بكير الناسية لهجة الرئيس التي يتصنعها و هو يُلمس سلكي نحاس غير معزولين ببعضهما مصدرا أزيزا كهربيا و زنات
_هيتكهرب.... اللي بيكذب بيروح النار و اللي مش بيسمع الكلام بيتكهرب
يتحرك عبد الحليم ناحية مكتبه و يوجه أحد كرسيين متوسطي الحجم أمام المكتب تجاه محمد _المنهار علي الأرض_ و يجلس عليه ، ينكز محمد بعصاه و يكلمه في ضيق و تحفز
_ أصحي يلا مش بيت أمك هو ، مش سلام و تحيه ميري و بس ، لا و تبوس الأرض و دماغك تحت رجله ساجد تسبح بحمده ، نادم علي كبرك عارف إنك أصغر، أصغر من حلق في ودنه محمد الذي قد عاد له بعض رشده، حاول نصب قامته و هو علي ركبتيه عارفا أن لا مفر من بطش عبد الحليم لا تنال حياتك بثمن بخسٍ أبدا مع هكذا بخيل ، شد يده يرفعها لمستوي ما فوق حاجبه جاعلا باطن كفه للداخل متمتما بأعلى ما قدر عليه من صوت نغم له ملامح العويل
_ أنت فين و الكلب فين*

أنت قده يا عبدالمعين
طب دا كلب (البوس_boss) يا بني
أنت تطلع ابن مين
بشري لصحاب الديول
و اللي له أربع رجول
بشري لسيادنا البهايم
هيص يا كلب (البوس) هيص لك مقامك....وبكره تتألف وزاره للكلاب ياخدوك رئيس
تحرك بركبته في نصف دورة ليكون وجهه للأريكة علي اليسار ،هناك قبع كلب ذهبي صغير لا يجاوز حجم حقيبة مدرسية ، خالط الحلو المالح علي شفتي محمد عبرات دموعه ، مخاط أنفه ، مذعنا للأمر، قبَّل الأرض تحت يدا الكلب و راح جبينه مجاورا لمنديله القماشي ، علي الأرض

تمت بحمد الله

* قصيدة لأحمد فؤاد نجم مقتبسة بتصرف

الأغوارحيث تعيش القصص. اكتشف الآن