2

44 4 0
                                    

الفصل الثاني
"ماضٍ."
***
بعد حلول منتصف تلك الليلة.
كان مُستلقي على ظهره ناظرًا لسقف الغرفة بشرود.
تنهد وهو يستقيم من نومته وخلل اصابعه في شعره القصير بعنف وقد ازداد حمله كل يوم أكثر من السابق.
أولًا وفاة زوجته اثناء ولادتها ابنتهما، نعم لم يتزوجا عن حُب لكن كان بينهما عِشرة طيبة ولا سيما انها كانت تعشقه حتى انها خاطرت بحياتها حتى تجلب طفلتهما، تبعها والده الذي توفي بعدها بثلاث سنوات وترك له جميع ثروته وشركاته ليديرها وحده بجانب عمه وولده.
أما والدته فتوفت منذ زمن وكأن ابنته قررت ان تشاركه قدره بفقدان الام في سن مُبكرة فتوفت والدته وشقيقته التؤام في حادث سير وبعدها لم يتزوج ابيه الذي فقد شطرًا منه بفقدان حبيبته الاولى وايضًا الأخيرة؛ فقرر ألا يدخل بيته امرأة بعدها ولا تشاركها مكانها في قلبه او حتى بيتها ووهب حياته لعمله ولأبنه وحاول جاهدًا ان يكون أمًا وأبًا له في نفس الوقت وها هو يشارك ابيه قدره ويفعل نفس الشيء ولكن الحمل اصبح ثقيلًا جدا على كاهليه ولم يعد يحتمل أكثر، لوهلة لاحت بذهنه تلك الفتاة صاحبة حادث الصباح، اعترف لنفسه لأول مرة هي جميلة جدًا بل ساحرة وأيضًا سلوكها الشقي وشرودها كانت مزيج غريب متناقض، ابتسم بتهكم على حاله معترفًا ان عقله اصبح يهلوس كثيرا مؤخرا وعاد ليستلقي مرة أخرى على فراشه وأغمض عينيه رغمًا عنه؛ كي يحاول النوم عدة ساعات قبل الاستيقاظ صباحًا لروضة ابنته ولعمله.
***
_صباح اليوم التالي_

استيقظت "عائشة" ظهرًا على غير عادتها ووجهها مُتجهم وقد تذكرت انها فُصلت امس من عملها بإحدى رياض الاطفال بسبب احدى اولياء الامور المتعجرفات بعد تطاول احداهن عليها فلم تسكت هي عن ذلك التجاوز والنتيجة فُصلت!
تنهدت بثقل شديد ووحدتها في ذلك البيت تقتلها حقًا وذكرياتها تكاد تدفعها للجنون فتُحدث نفسها.
لا تريد ان تعود لتلك الحالة مجددًا، خرجت منها بصعوبة شديدة ولن تترك نفسها لذكرياتها ولقلبها أبدًا!
نهضت من فراشها ورتبته وحضرت طعام الفطور وجلست لتتناوله وأمسكت بهاتفها لتتفقد صفحات الوظائف الالكترونية حتى وقع عينيها على خبر للتوظيف بإحدى الشركات، وقفت اللقمة بحلقها فسعلت بقوة وقد رمت الهاتف بجانبها وأخذت عدة رشفات من المياه وصدرها مازال يعلو ويهبط بقوة ودموعها تسيل رغمًا عنها والذكريات تُعيد نفسها كفيلم سينمائي امام عينيها .

"عودة بالزمن لبضع سنوات مضت"

كانت جالسة على الطاولة بجانب شقيقها ووالديها تتناول فطورها بشهية وتتبادل اطراف الحديث مع باقي افراد العائلة وتعلو ضحكاتهم .
انهوا تناول الفطور ونهضت "عائشة" مع والدتها لتوضيب المائدة.
قالت "عائشة" وهي تضع الطعام على الحوض الخاص بالمطبخ:
_تفتكري هتقبل في الشغل يا ماما.

_إن شاء الله تقبلي.

_حاسة انه لا كان المفروض يتصلوا..
قطع حديثها رنين هاتفها فقفزت بفرحة تلتقفه ودلفت الى غرفتها لترد على الهاتف وقلبها يقفز داخل ضلوعها بحماس!

_آنسة عائشة؟

_ايوه انا.

_حضرتك اتقبلتي في الوظيفة وتقدري تبدئي شغل من اول الشهر ان شاء الله.

أغلقت الخط بعدما شكرت الموظف بحرارة وعلى ثغرها ابتسامة سعيدة مُقبلة على الحياة .
وأخيرا وجدت الوظيفة التي لطالما حلمت بها وأيضًا بشركة كبيرة سيصبح لها مكانة مرموقة وتحقق النجاح في حياتها العملية مثلما حلمت دومًا.
هي خريجة كلية التجارة قسم ادارة الأعمال ولديها عدة شهادات لدورات كثيرة أخذتها خلال دراستها بالجامعة وبعد التخرج لتطور من ذاتها والأن سيتحقق حلمها وتنزل إلى سوق العمل مثلما يقولون.
تتذكر أيضًا يومها الأول في العمل كيف ذهبت قبل ميعادها وجلست تنتظر مُدير الشركة بالمكتب الخاص به، كانت متوترة جدا وايضًا متحمسة.
ودلف هو إليها بوجهه الباسم يمزح على قدومها باكرًا والتزامها الشديد وعندما لاحظ توترها نهض من كُرسيه ليجلس بالكرسي المُقابل لها وحاول تخفيف توترها.
نظرت له عن قُرب، كان وسيم إلى حد ما، خفيف الظل يجعلك تُحب مجالسته، استفاقت من شرودها لتنظر إلى الارض بخجل شديد ولاحظ هو ذلك، كان مُراقب جيد وصياد ماهر ايضًا!
ابتسم نصف ابتسامه خبيثة وقد انتفخ داخله عندما رأى الاعجاب بعينيها الساحرتين لا ينكر أبدًا انه وقع أسيرًا لسحر عينيها وملامحها الجميلة فهو لا يختار ابدًا بُناءًا على المهارة والخبرة والشهادات فقط هناك اعتبارات اخرى مثل جمالها الأخاذ.

_تقدري تروحي مكتبك وتبدئي شغلك، اي صعوبة تقابلك تعاليلي على طول متقلقيش، بالتوفيق يا عائشة.

"عودة بالزمن للوقت الحالي"

انتشلها من ذكرياتها رنين هاتفها فأخذت لترى من المُتصل.

_ايوه يا ياسمين.

_عاملة ايه النهاردة يا عائشة؟

_كويسة الحمدلله، انتِ عاملة اي؟

_كويسة، انا حاولت كتير مع مدام نجلاء بس مش راضية ترجعك خالص يا عائشة .

_خلاص يا ياسمين دا نصيب وبعدين مكنتيش تكلميها هي ما صدقت اساسًا.

_حاولت اعمل اللي اقدر عليه، مش عايزاكي تقعدي بلا شغل.

_متشغليش بالك انتِ ربك يسهلها، خدي بالك نفسك بس.

قالت "ياسمين" بعدما فكرت طويلًا:
_بقولك يا عائشة، انا كُنت شوفت شغل من يومين كدا بس لسه مبدأتش وكنت ناوية اكنسله بس شكله من نصيبك.

_شغل ايه؟

- واحد عايز مُربية لبنته تروحلها البيت وكدا، هما ناس مرتاحين اوي وهتتبسطي معاهم الشهر عنده بمرتب سنة في الحضانه بس هو اهم حاجه عنده انه المُربية دي تكون صبورة اوي لان البنت من ذوي الاحتياجات الخاصة وكمان بنته الوحيدة،
ها رأيك ايه؟

اجابتها بحيرة ومخاوفها تنهش داخلها بلا رحمة:
_مش عارفة يا ياسمين، طيب انتِ مروحتيش ليه؟

_اترددت كدا يا عائشة عشان البنت خايفة مقدرش اتعامل معاها وكمان البيت والعيال واخدين وقتي يدوب بقدر اروح الحضانة.

وضعت يدها على قلبها وكأنها تضع يدها على نارها التي لا تخمد ابدًا وقالت باضطراب:
_مش عارفة يا ياسمين، خايفة من حوار البيت دا.

_متخافيش يا حبيبتي جمدي قلبك كدا وبعدين انا شوفت الراجل شكله كويس اوي وبيراعي ربنا.

نظرت للفراغ وقالت بنبرة متهكمة وكأنها تذكرت شيء ما:
_مش بالمظاهر يا ياسمين، على العموم هاتي الرقم والعنوان واللي فيه الخير يقدمه ربنا.

***
في فيلا "وائل الحديدي"

كانت "مي" جالسة مع والدتها بالمطبخ وهي تقوم بتقطيع الخضروات لطهيها على الغداء، نظرت مي لوالدتها مطولًا وقالت بتردد:
_هو انا مش هروح الحضانة زي جنا؟

_لا

عبست الفتاة قليلًا وقالت بضيق:
_ليه، انا عايزة اروح، انا اكبر من جنا.

اجابت بنبرة جامدة غير عابئة لعقل الطفلة الصغيرة:
_انتِ مش هتتعلمي.

ترقرقت العبَرات بعيني الصغيرة وقالت بإصرار:
_ليه

تأففت "الام" بضيق ولوحت بالسكين امام وجهها بتهديد في صياح هادر:
_يوووه هو كل شوية ليه ليه، روحي اسألي عمك حسام ولا عمك وائل وحلي عن دماغي، انا قرفت.

سالت دموع الفتاة وكتمت شهقاتها حتى لا تثور والدتها عليها اكثر وتضربها، خرجت للحديقة لتجلس بمفردها مجددًا كعادتها تنظر للسماء فقط فهي منبوذة من جميع اهل البيت.

في ذلك الوقت وصل "حُسام" إلى منزله بعدما نسى احد اغراضه بغرفة المكتب وعاد ليأخذها ويغادر مرة اخرى.
دلف الى غرفة المكتب والتقف ذلك الغرض فلمح طيفها من زجاج غرفة المكتب الخاص به والتي تطل على الحديقة، نظر للفتاة مطولًا وتذكر ليلة امس وقسوته عليها فقرر الخروج لرؤيتها ومن ثم الذهاب.
تنهد بثقل وكان هناك حجر على قلبه وفتح المزلاج وسار نحوها بتردد،
كانت الفتاة شاردة في زرقة السماء الصافية الخالية من الغيوم، غارقة في احلامها الوردية السعيدة التي تهرب اليها من مرارة واقعها ووحدتها وانتشلها من شرودها جلوسه بجانبها فانتفضت بخوف.

_متخافيش، عاملة ايه يا مي؟
ربت على كتفها بحنو عندما انتفضت ليُطمئنها وسأل عن حالها.

اومأت الفتاة وهي تنظر اليه بتفحص شديد بعينيها الواسعتين ومظهرها يدل على انها مازالت خائفة من ليلة امس.

نظر لها "حُسام" مطولًا نظرة نادمة وهناك وخزة تؤلم قلبه وهي فقط التي تستطيع اصابته بتلك الوخزة وايلامه حقًا، هي فقط من تجعله يشعر بالندم وايضا هي مرآته التي يرى نفسه الحقيقة بها، نفسه السيئة، يرى نفسه في حدقتيها اسوء رجل في العالم.

قطع تفكيره وشروده زوجته،
عندما وقع نظره عليها تنظر له بشر، نظرة مُحذرة يعلمها جيدًا،
أعاد نظره للفتاة التي عادت لشرودها مجددًا ونهض هو ليعود إلى عمله.
***

في مكان أخر حيث وصل التاكسي إلى احد ارقى الاحياء في المدينة،
ترجلت من التاكسي وهي تنظر إلى الفيلا وانقبض قلبها عندما رأتها.
حدثت نفسها بمواساة بها شيء من القوة:
_لازم تخرجي من الماضي مينفعش تفضلي جواه وتعيشي خوفه حتى وهو ماضي، زي ما وعدتي نفسك خلي الماضي جواكي ومتسمحيش يسيطر عليكي ابدًا والا هتنهاري، اكيد حياة مش هتحب تشوفك مُنهارة، انتِ وعدتي نفسك تكملي عشانها وبيها فخليكي قد وعدك.
اخذت شهيقًا قوي والقت نظرة مرة اخرى على تلك الفيلا وخطت بعض الخطوات حتى وصلت الى الباب ودقت عدة دقات منتظمة،
فُتح الباب وطلت عليها سيدة خمسينية بوجه بشوش وأشارت لها بالتوجه إلى المكتب لتقابل والد الطفلة، سارت بخطوات ثابته اتجاه المكتب ودقت الباب ودلفت بعدها، فوجدت الغرفة فارغة، استدارت على حين غرة لتعود ادراجها فارتطمت بصدره بقوة!
عادت للخلف عدة خطوات على اثر الاصطدام ورفعت رأسها لتواجهه وكان هو ثابت لم يتأثر كثيرًا بالاصطدام ولكنه كان مُسلط نظرة على تلك البلهاء التي ارتطمت به ورفع حاجبيه بذهول عندما نظرت إليه هي ايضًا بنفس الذهول!!

يحيى بصدمة:
_إنتِ تاني!!

يُتبع.

احياني عشقه - علا فائقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن