' أيتها الأخت المباركة، أيتها الأم القديسة،
يا روح النبع، وروح الحديقة،لا تجعلينا نهزأ من أنفسنا بالكذب
علمينا أن نهتم وألا نهتم
علمينا أن نجلس هادئين
حتى بين هذه الصخور
سلامنا في مشيئته '- ت. س. إليوت
الذاكرة هي هيكلية تتصف بالمثالية المفرطة حتى و إن كان ذلك على حساب الدقة التامة ، فللعقل قدرة على محو الذكريات و استبدالها بصور هوامية للحب المألوف المعتاد غير المتكلف ، يخلق العقل العاطفة و يسكن داخلها لتحيطه بأسوار لا يمكن هدمها ، و بذلك تشكل له الحقيقة عدو لدود قادر على اهلاك جيوشه بكاملها ..
مرر يده على شارات سترته للمرة الأخيرة و عاد لينظر لوجهه في المرآة. نظر نحو هندامه و حاول البحث عن أخطاء صغيرة غفل عنها ، لم يدرك الوقت الذي قضاه و هو على هذا الحال ، كان يفقد تركيزه بين الحين و الآخر ليبهت الواقع من حوله و يتحول الى ذكريات ضبابية ثم تختفي خلال ثواني لتعود الغرفة الفارغة تحيطه بسكونها ، لا يقف أمام بصره سوى المرآة التي عكست صورته ..
ملأ صدره بنسيم الصباح القادم من النافذة و حبس انفاسه لفترة ثم خرج من الغرفة بلا افكار اخرى لتشتت وجهته هذا اليوم ، طرقت قدمه أروقة القصر بخطواته السريعة يمتنع تماماً عن النظر حوله لكل الأمور التي لم تكن تعنيه ..
" هدايت باشا ! " اوقفه نداء شخص معين في منتصف الرواق بينما كانت باب القصر المفتوحة لا تبعد عنه الا بضع خطوات ..
استدار ببطء و نظر نحو هذا الشخص و رسم ابتسامة متكلفة على وجهه عندما أجاب " عزت باشا ! "
" خوش گالدن " رحب عزت باشا به بإبتسامة عريضة لم يكن الآخر متأكد اذا ما كان اصطنعها أم كانت فعلاً حقيقية ..
ظل هدايت صامتاً لفترة عندما شاهد عزت يقترب منه حتى لم يكن يستطيع التهرب من الجواب اكثر من ذلك لذا تمتم بعدم اقتناع ليرد الترحيب " خوش بولدوك .. "
" كشف حقيقة سعيد باشا جان انجاز عظيم .. تبريك ايديرم " ابتسم عزت باشا بذات الطريقة السابقة التي زرعت الشك في قلبه ..
امتنع هدايت عن الرد فلم يكن هذا الأمر محل للتهنئة خاصة في ظل عدم تأكدهم من جرم المعني ..
" وجودك سبب خوش فرق " أكمل عزت كلامه بينما كان الآخر يتلفت حوله يحاول إدراك كم من الوقت فاته في أمور لا معنى منها ثم جذب انتباهه باقي كلام المشير عندما أردف " لكن مسألة المنتفق تحت سيطرتنا تماماً ، جيشنا قوي و أكثر من قادر على انهائهم "
أنت تقرأ
المنتفق
Historical Fictionالبرد ، و الشارات التي حملها على صدره ، و أربعين ربيعاً لم يرى فيها والده ، كل تلك أمور أطالت طريق سفره .. لم يكن يود الرحيل فكل الطرق التي حاول سلكها على مر سنين حياته اعادته الى استنبول ، لم يكن يود الرحيل .. ليس الى بغداد على الأقل ..