٢|نواحي آبتموزت

56 5 0
                                    

«لا عتاب عليه لو بكى
فالعين حنت للذي تحت الثرى»
*فانوس الجنائز*

ليلة أسرية لكفوفِ الديجور*، تندب في صمت نحو البعيد المستور، وتتحين ما وراء ستائر الليل، ربما يظهر ويمسح الخدر عن ساعديها، وحيث يكتنف القمر بغيمٍ قاتم، فجعل يلملم وبالسواد يحبحب، يواري مآسيه بجنائز الوبرة*، وكلما شارف الوبر على الانقشاع، نصع لون البدر وتهلهلت التقاسيم مع أنشودةٍ.

ظواهر لا تنام، محشورة في قيام*، والقوم أنهال عليهم السبات، فالبيبان وطيدة الأنطباق، والدور سالمة من الحشود، ما من روح ترتحل في الظلماء إلا سماوي المقل، في غضون وضوح القمر، وهج الوميض معانقًا عينيه، وخطواته العجلة تُسابق الغيم في المسير وهو يتمتم: ويحك يا بارق، كيف تاه منك وأنت بصير؟

تمركز بارق بين البيوت، فأبصر سائر الأزقة تواجهه بالغربة، فغاص ظله في أعراس الظلام*، وتركه وحيدًا بين النواحي... ليشيع توابيت أقباسه*، حشرجة الظنون في فؤاده نحو الصمت المنهمر كالغيث، وما قد لمح سبيل أنهماره، ولا أضواء تنير السطوح ولا السماء. وليس هناك حسوس تعج بالهواء، وهذا السكوت ليس خاليًا إلا إذا أصابه بمكيدة محكمة، لملم بارق عباءته وغمغمة تقاسيمه، بينما يتفحص أي داهية* ستؤدي به إلى الدهر.

نفث ما في جعبته وحرر فؤاده من سراب الأغلال وقال: أراهن أن الظلام قد أبتعله وإلا ما استغرقني كل هذا الوقت... لأجد مفترسًا يتحين الفرص لقضمي.

_________________________ وقفة لتأمل النص
١. الديجور: الظلام.
٢. الوبرة: الغبرة.
٣. محشورة في قيام: تضيق في حال الوجود.
٤. فغاص ظله في أعراس الظلام: في أنفسنا ظل وحولنا ظلال تجتمع بمصطلح ظلام، والظل هو نفسنا الإمارة بالسوء التي سرعان ما تنغمس بالظلام بحجة الهوى، والظلال هم أعوان الشيطان الذين يخرجوننا من النور إلى الظلمات، فحذاري يا مؤمن، أن ينغمس ظلك في جوف احتفالات الظلام، الذين يقدمونك فيما بعد قربان للنار.
٥. يشيع توابيت أقباسه: إياك ومواكبة الذنب، وأقباس قلبك لا تدوم ولا تعود.
٦. داهية: ذكاء فائق.
______________________العودة لمسيرة القافلة

عزم خطاه للإياب*، حيثما تبسط الظلمة ساعديها، اقتفى إثره لينغمس في احضانها كما غمر ظله ومبتغاه، ولم يستوقفه من رحلته إلا حس رفيع، إذ لقف صيوانه شهقة بُترت بالكتمان، ثم تمتمة تلاشت بالونين. أدار رأسهِ ليستطلع الحال في ذلك الزقاق، وقبيل أن تغير الريح شراع قاربه، قد عضد كفه بغمدِ السيف المختبئ تحت عباءته، ولعل... تلك الحبكة الناعمة كانت ساحة لتقديمه كالقربان*.

طلع من حدود الدور، وكنفت الغبرة مسيرته، عندما وطئت قدماه على الساحة الرملية، سواد كاحل تجسد بسربِ القبور، فالمراقد مصففة كالجند المجند في الحربِ، والحجارة تتوج رأس الذي تحت الثرى. اختبأ بين أظلة دورين، بعد أن رأى فانوسًا يضيء قبرًا دون زائره، فجلس بارق بعيدًا يُراقب القمر هذا الليل الكاحل، ولا شيء يدل عليه سوى نحيبه وأطراف حكاياته.

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: 8 hours ago ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

عربون الخريف⟲Where stories live. Discover now