امام مبنى شرطة المدينة وقف رجل يتأمل مدخله وهو يدخن سيجارته بهدوء مراقباً الناس وأفراد الشرطة الداخلين إليه والخارجي منه. قوطع سرحانه حينما اقترب منه احد أفراد الشرطة وسأله عن سبب وقوفه هنا بهذا الشكل
وضع الرجل سيجارته في فمه وأخرج بطاقته ومدها أمام وجه الشرطي الذي تغيرت ملامحه وقال:
"أعتذر يا سيدي على ازعاجك.. هل هناك خدمة يمكن أن أقدمها لك؟"
امسك الرجل سيجارته بسبابته وإبهامه واخذ نفساً طويلاً منها قبل أن يرمي بها تحت قدمها ويدوسها قائلاً و الدخان يخرج من انفه:
"خذني لمكتب مدير الدائرة.."
(الشرطي) وهو يمد كفه تجاه مدخل المبنى: "امرك.. تفضل من هنا"
(الرجل) مشيراً له بالتقدم قبله :" من بعدك انت"
سار شرطي وهو مرتبك ومن خلفه الرجل..
في الطابق الخامس من مبنى شرطة طُرق باب المدير المديرية وحينما اُذن للطارق بالدخول دخل شرطي و من خلفه ذلك الرجل و حينما وقعت اعين مدير عليه تذكره في الحال ونهض من مكانه مرحباً به ومد كفه لمصافحته: "المحقق (اياد)!.. اهلاً بك في مدينتنا المتواضعة انه لشرف لنا وجودك معنا.. "
تقدم(اياد) مصافحاً المدير قائلاً :"الشرف لي يا عميد (غازي) "
أشار المدير الشرطي بالخروج وتركهما وحدها..
قدم الشرطي التحية وهم بالخروج لكن المدير
استوقفه وهو يعود لمكتبه وقال :"انتظر.. "
وجه المدير نظره ل(اياد) الذي جلس أمامه وقال:"كيف وجدت السكن الذي خصصناه لك في مبنى الضباط؟ "
(اياد) :"جيد ومناسب.. و هادئ"
(غازي) :"جيد.. جيد.. ماذا تشرب يا محقق (اياد)؟ "
(اياد) :"قهوة سوداء.. والكثير من السكر "
تبسم المدير ثم وجه نظر الشرطي الذي فهم وقال:"حاضر"
بعد خروج الشرطي عقد المدير اصابعه و اسندها لسطح طاولته وقال:"بالطبع شرح لك محقق (نادر) السبب لطلبنا معاونة شرطه العاصمة "
(اياد) :" نعم اخبرني.. وحسب ما فهمت انني هنا منتدب او معار بشكل موُقت لكنه لم يخبرني إلى متى"
(غازي)باسماً:"هذا حسب مجهودك.. "
(اياد) :"لم افهم"
(غازي) :"كما تعرف نحن مدينة كبيرة لكن لسنا بحجم العاصمة وكما هو الحال دوماً حينما يبرز اي شرطي او محقق في عمله ويتميز به يتم نقله لفريق شرطة العاصمة لذلك فهم يملكون اذكى المحققين وامهر أفراد الشرطة"
(اياد) :"العاصمة كبيرة وتعداد سكانها كثيف وعدد الجرائم هناك.. "
(غازي)مقاطعاً :" نعم نعم انا مدرك لذلك مثلما كل الأقسام بالمدن الأخرى يتفهمون حينما يُسلب منهم افضل موظفيهم فقط لأنهم برعوا في تأدية عملهم لكن هذا يأتي مقابل ثمن وهو اننا لا تستطيع حل الكثير من القضايا التي يمكن تسميتها 'صعبة' وهذا يوُدي لتراكم القضايا 'الباردة' او المقيدة ضد المجهول "
(اياد) :" وهذا امر مزعج و معيب في حق أي دائرة الشرطة"
(غازي) :"بالضبط.. ونحن نعاني مؤخراً من هذا التراكم غير الحميد.. المحققين هنا ليسوا سيئين بل على عكس تماماً فمعدل حلهم للقضايا عالٍ جداً بالمقارنة مع الدوائر الأخرى لكن.. "
(اياد) :" لكن ماذا..؟ "
(غازي) :" خلال السنوات الثلاث الماضية تزايدات قضايا من تصنيف معين.. لأشخاص يختفون بدون سبب.. ومهما حاولنا كشف اسباب اختفائهم نصل لطريق مسدود.. لا يوجد أي أدلة واضحه يمكن أن وتقودنا لشيء وكل الذين حققنا معهم كمشتبه بهم لم نتمكن من ربطهم بحوادث الاختفاء تلك وكنا سنتجاهل الأمر لولا زيادة عدد القضايا غير المحلولة بشكل محرج لي وللقسم بالكامل "
(اياد):" عن كم قضيه نتحدث؟ "
صمت مدير الشرطة لثوانً ثم اخرج علبة سجائره واشغل لفافة وقال :" ٥٣ قضية.. "
(اياد) :"هذا عدد كبير جدا! "
(غازي) :"انا مدرك لهذا الأمر..لكن لو تمكنا من حل ثلث هذا العدد فقط فسوف نخرج من دائرة الاحراج قليلاً امام الوزارةلذا لجات وطلبت صديقي القديم ('نادر') ان يعاونني في تخفيف هذا العدد من القضايا التي تكدست لدينا بالارشيف فقام مشكوراً بترشيحك لنا لمساعدتنا في ذلك "
(اياد) :"لكن هناك مشكلة"
(غازي) :"ماهي؟ "
(اياد) :"سجلي في حل القضايا.. "
(غازي ) :"اعرف.. انت المحقق الوحيد الذي لم يستلم قضيه دون أن يحلها وسجلك خالٍ من قضايا المقيدة ضد المجهول ولهذا يحبك'(نادر) ' ويثق بك فهو الوحيد الذي يحمل الإنجاز نفسه بالبلاد "
(اياد) :"في الحقيقة معلوماتك ليست دقيقة.. سجلي كان نظيفاً حتى.."
(غازي)مقاطعاً :"حتى استلمت قضيةر'البناية'اخبرني ('نادر') عن الموضوع "
اخرج (اياد) علبة سجائره واشعل هو الاخر لفافة تبغ وبدأ يدخنها بصمت سارحاً أمامه وكأن ذكر تلك القضية عكر مزاجه وازعجه..
(غازي) :"اسمع يا بني... لا يوجد محقق يتمكن من حل جميع القضايا التى توكل اليه.. أعظم المحققين يحملون في سجلاتهم قضايا كثيرة مقيدة ضد مجهول او وصلت لطريق مسدود لكن في المقابل لديهم أضعاف ذلك العدد من القضايا المحلولة والتي تمكنوا من خلالها من تحقيق العدالة"
(اياد) :" السيد ('نادر) ' ليس لديه قضيه لم تحل"
(غازي)باسماً:"وهل انت في منافسة معها؟ "
(اياد) :"لا ولكن.. "
(غازي) :"لا تدع طموحك يكون عائقاً امام تقدمك وانجازك.. "
(اياد) :"ماذا تقصد؟ "
(غازي) :"اقصد ان الشغف في تحقيق اهدافنا شيء جميل ومصدر طاقة محرك للانجاز لكنه قد يتحول دون شعور منا لهوس وحينها يصبح أداة للتدمير.."
(اياد):"تدمير؟"
(غازي) :"تدميرك انت وكل ما يمكنك أن تقدمه.. نحن لا نطلب منك حل جميع القضايا التي نقدمها لك.. فقط عشر قضايا او خمس عشرة قضية لا أكثر وسيكون ذلك كافياً وخدمة وسنكون ممتينين لك لو قدمتها لنا"
(اياد)مطفئاً السيجارة :" سأحتاج بعض المساعدة"
(غازي) :"الدائرة كلها مسخرة لك ورهن أشارتك وسوف أصدر أمرا بأن تتعاون معك جميع الأقسام هنا دون الرجوع الي "
(اياد) :"واين اجد هذا القضايا؟ "
نهض (غازي) واشارل(اياد) بأن يتبعه...
خرج الاثنان من المكتب ونزلا الطابق الثاني و خلا غرفة كتب على بابها 'قسم الارشيف'وحينما توسطاها وقف فتى في منتصف العشرين من عمره ارتباك وهو يقدم التحية للمدير مسقطاً كرسي مكتبه وراءه قائلاً:"اهلا سيدي! "
(غاري) مشيراً له بكفه بالجلوس محدثاً (اياد):"هنا ستجد جميع ملفات القضايا بكافة انواعها.. المحلولة و المقيدةضد مجهول حتى البلاغات الكاذبة.. كل شيء.. و (ياسر) سيعاونك في إيجاد كل ما تريد وسيقدم لك كل المعلومات التي تحتاجها"
(اياد) :"واين سأدرس القضايا؟ "
أشار (غازي)ل (اياد) بالتنحي عن مكتبه ففعل بعد ما أعاد الكرسي لمكانه..
(غازي) باسطاً كفة فوق مكتب (ياسر) الخاوي:" هذا هو مكتبك الجديد"
(اياد) موجهاً نظره ل (ياسر) :" وماذا عنه؟ "
(ياسر) بارتباك ونبرة متقطعة:"لا تقلق يا سيدي سوف احضر لي مكتباً اخر"
(اياد) وهو يجول بنظره من حوله:" المكان ضيق ولا يستوعب مكتبين"
(غاري) :"سيكتفي بكرسي مريح.. هل تحتاج إلى شيء اخر؟"
تقدم(اياد) نحو مكتب ماسحاً بأنمله على سطحه متأملاً النافذه خلفه:"قهوتي التي لم تصل لمكتبك... مطفأة سجائر.... والكثير من وقت.. "
(غازي) باسماً:"خذ كل الوقت الذي تحتاجه ولن يطلب احد منك الرحيل قبل أن تقرر انت ذلك "
(اياد) :"و القهوة و المطفأة؟ "
(ياسر) قبل أن يهم بالخروج على عجالة:"في الحال سيكون كل شيء عندك! "
خرج (ياسر) تاركاً( غازي) يحملق في (اياد) الذي دنا من النافذة وبدا يتأمل الناس في الخارج..
حدثه غازي من خلفه قائلاً:"عشر قضايا او خمس عشرة قضية فقط يا (اياد).. لا تغرق في وحل لا يمكنك الخروج منه... "
(اياد) ملتفتاً نحو(غازي) :"قدمي غطست وقد بدأنا.. "
_____________
يوم الأربعاء أو خميس انزل فصل اخرى