نظرية اللفت

11 3 17
                                    

اليوم تزغرد مدينتنا بأضواء الاحتفالات في كل مكان، فاليوم كما اعتادوا على تسميته "كلاسيكو الأرض"، وهو أكبر حدث رياضي في العالم، مباراة كرة قدم بين فريقي "ريال مدريد" و "برشلونة" تتابعها أنظار العالم، حدث يحبس الأنفاس مع كل مرة يحدث فيها، ليعصف بنصف العالم ويجعل منهم تعساء، ويرقص مع النصف الآخر.

خرجت من منزلي قاصدًا مقهى "كورنيش النيل" قبيل بداية المباراة بساعة كاملة، ووحده الله يعلم أنه لولا صديقي الذي حجز لي مقعدًا منذ ثلاث ساعات مضوا، لما وجدت ما أجلس عليه طوال المباراة.

وصلت إلى المقهى وجلست على التراس المطل مباشرةً على النيل، حيث تقابلنا شاشة عملاقة بحجم الحدث الذي يُبَثُ عليها، وقد تم فصل مقاعد مشجعي كلا الفريقين عن بعضهما منعًا للمشاحنات التي تحصل دائمًا في هكذا مناسبات، ولكن بالطبع وبفضل مكانة صديقي لدى مالك المقهى - حيث أنه من الأعضاء السابقين الأوائل في القهوة منذ كانت عبارة عن مقعدين ومنضدة - جلسنا في مكان مميز يتوسط جمهور كلا الفريقين، ولا أخفي عليكم سرًا أنا مشجع متعصب للنادي الملكي "ريال مدريد"، بينما صديقي أحد كهنة "برشلونة" وعلى الرغم من الإختلاف الكبير بيننا في هكذا أوقات، يظل صديقي الأوحد، وأظل صديقه الأحب.

انطلقت صافرات بداية المباراة، ومعها انطلقت هتافاتنا وسبابنا المتواصل لكل من يهدر فرصة أو يضيع كرة، بينما قلوبنا معلقة بأقدام اللاعبين، كتعلق الطفل بصدر أمه، ينظر له كمن خذله العالم وينتظر منه الإنصاف، أو كأن حياته تعتمد عليه - وهو كذلك - حتى صدم مشجعي النادي الملكي بهدف قاتل بأقدام ذلك المشعوذ "ميسي"، لتشتعل مقاعد مشجعي "برشلونة" بالهتاف، كأن زلزالًا أصاب التراس بأكمله، بينما نظرات التحسر وخيبة الأمل تطل برأسها من جحور وجوه مشجعي "ريال مدريد"، وفي تلك اللحظة رأيتها...

فلنقل أن أقحوانة .. لا ليست أقحوانة، فالأقحوان رمز للهدوء، بينما تلك الجميلة تحوي صخب العالم بين كتفيها، بم أشبهها؟، أقول قطة، أم غزالة، أم ماذا؟، لا يوجد وصف ينصفها، لا أظن أن الله خلق منها أربعين، أو إنه - سبحانه وتعالى - فعل ثم مزجهم في جسد واحد، أمسكت علم "برشلونة" تلوحه في الهواء، بينما تقفز قفزات "شيرازية" على المقعد الذي كانت تجلس عليه منذ لحظات، فتتقافز الدنيا حولها، لا أدرِ كيف بمقدور مائة وخمسين سنتيمترًا أن تفعل فعل قنبلتي هيروشيما وناجازاكي بقلب رجل ناضج مثلي؟.

وبينما كان الجميع يتابع المباراة على الشاشة العملاقة، ويتناوبون على الهتاف، كنت أتابع أنا مباراتي الخاصة، وبمجرد انتهاء الشوط الأول من المبارة، تركت مقعدي وتوجهت نحوها، لم أدرى إلا ونحن نتبادل أطراف الحديث، وتخبرني بمدى كرهها لريال مدريد ولاعبي ريال مدريد ومشجعي ريال مدريد، حتى أنني حمدت الله أنني لم أرتدِ قميص ريال مدريد، وإلا لضاعت عليا أجمل فرصة وأجمل فتاة.

بدأ الشوط الثاني، والذي اضطررت فيه لتشجيع "برشلونة"، فعندما تضيع فرصة مؤكدة للتسجيل من لاعبي برشلونة، أتصنع الغضب بينما يدي تعتصر المقعد وصدري يتنفس الصعداء، ويالها من مباراة تبعتها العديد من المباريات واللقاءات مع تلك الفاتنة، حتى لأظن أنني أحبها، وهذا ما صرحته لصديقي "يونس" في إحدى جلساتنا على مقهانا المفضل:-
- صديقي إنها فاتنة، ولا أنكر أنني أحبها، ولكن... أنت تعلم أن تلك الكلمة "لكن" تدمر ما سبقها من الكلمات، فكأنها مطرقة تهدم ما تم بناؤه من كلمات سابقة، لذا أقول لكن موضوع "برشلونة" كله يؤرق ليلي، فأنا لن أستطيع التظاهر بحبي لبرشلونة للأبد، فهذا يقتلني أكثر من رحيل "رونالدو" عن ريال مدريد.

ارتشف "يونس" بضع قطرات من سائله الأسود ببرودة عهدتها به، مصدرًا لحنًا لل"سسسوييفت" وبعده "هحححححح" طويلة تأكيدًا على ارتياحه التام للطعم الفيروزي لقهوته السوداء لونًا والبيضاء تأثيرًا، وبعد ثوانٍ من الصمت حسبتها أعوامًا، انفرجت شفتاه في كسل، وكأنه يضن علىَّ بالكلمات:-
- لفت، كل علاقاتي الناجحة اعتمدت على نظرية وحيدة في نجاحها، "نظرية اللفت".
- ماذا تقصد؟!.
- ما أقصده أنك تأكل "اللفت" من طبق "المخللات"، لأنك تحبه وهكذا يتبقى لي كل "الجزر"، والذي بالطبع أحبه، ما أريد قوله أنني دائمًا ما أبحث عن شخص لا أتعارض معه في الشخصية، تشارك الشغف يُقرِّب القلوب.

تجرع "يونس" أخيرًا ما تبقى من الفنجان ثم نظر لي قائلًا:-
- نحن مدينون لأنفسنا بالكثير يا صديقي، مدينون بكل مرة تنازلنا فيها عن أشياء نحبها لأجل أن نحتفظ بمسافة معينة مع أحدهم، مدينون عن كل تنازل مهما كان تافهًا اقترفناه لأجل أحدهم، مدينون، والطريقة الوحيدة لسداد تلك الكمية الهائلة من المديونية تكمن في "نظرية اللفت"، يجب أن نختار من يتوافق مع رغباتنا وتفضيلاتنا، وليس من يسلبها منا.

مقالات يونسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن