سوسن

17 2 0
                                    

"سوسن" يا لحن الريح على أوتار الأرض، والعطر المُهدى من جنة عدن لحدائق بابل ومزارع كيميت، يا شتلة حب تتمايل دلعًا في أحواض شجيرات الليمون فتتساقط غيرة أوراق التين...
ما ذنب نساء العالم أجمع إذ ولدوا نساء، فما فرصة أنثى تتبارى مع زهرة صيف!
.
.
.
.
.
.

اليوم أنا محدثكم يونس، لا صديق يروي مأساتي فلا أحد سيتفهم... اليوم أنا يونس وقد سئمت الحوت وأنوي الهرب.
كل منا لديه حوته، كل منا يقبع يونسٌ داخله فيبتلعه حوته الخاص ويبتلعنا جميعًا حوت مشترك يسمى الحياة، وليس هناك إلا سبيلين للفظ حوت الحياة خارج أحشائنا؛ الطريقة الأولى تتلخص في كلمة نستطيع تطبيقها في حياتنا، نعم الرضا هو السبيل الوحيد للهرب كما فعلها قبلنا "يونس" الرسول؛ أما الطريقة الثانية سننتهي إليها جميعًا إن آجلًا أو عاجلًا، فلا يتبقى أمامنا سوى مخاوفنا وحواجزنا الخاصة، ولا يقتله إلا الخروج عن المألوف، خروجنا عن المألوف يعني موتًا حتميًا للنمطية والروتين، وبالتالي موتًا مأكدًا لكل ما يجول بخاطرنا من مخاوف وهلاوس السقوط.
ولكني لن أحدثكم عن حيتانكم، فأنتم أدرى مني بها أنا هنا لأقص لكم أسوء كوابيسي، كابوس لم أكن أعلم بإمكانية حدوثه، بل لم يخطر ببالي يومًا!.

طبيعة عملي تجبرني على استقلال القطار يوميًا لمدة ساعة، حتى أصل لمحطتي في مدينة أخرى حيث أعمل، وتقع مدينتي - حيث أسكن - قبل مدينة عملي بمدينتين أخريين وتقع في منتصف المسافة بين المدينتين مدينة لا يمر عليها سوى قطار وحيد أكون بداخله يوميًا للوصول إلى المدينة حيث أعيش، وفي هذة المدينة على وجه الخصوص، تم تعذيبي بكل الوسائل المعنوية، أنا لم أكن أدري بموعدي المجهول مع كابوسي، حتى دخلت من باب القطار، ملفتة هي حد الشمس، لا يمكن لأعمى حتى ألا يلاحظها، جلست على مرأى مني قريبة لعيناي بعيدة عن كفي حيادية الملامح تجاهي، هل هناك عاقل على وجه الأرض يستطيع غض القدر؟، غض الحتمية؟، أنا قادر على غض البصر ولكن ماذا عن غض الفؤاد؟، لأنها وبدون إرادة مني دخلت فؤادي مع أول خطواتها داخل القطار.

ماذا يحدث لي؟، أجننت يا يونس؟، حتما لقد فقدت عقلي، فقدت كل صلاتي بالواقع، هذا هو الموت المحتوم أن تعشق شخص لا تعرف عنه شيء ولا سبيل لذلك، بل ومن أول نظرة، أعلن أنا العدو الأول للحب على وجه العموم والحب من أول نظرة على وجه الخصوص أنني أسقط وتسقط جميع معتقداتي أمامها، وكأنها جائت لتهدمني وترحل.
نزلت في ذات المدينة بين المدينتين حيث المجهول -بالنسبة لي- فلا هي تشاركني الانطلاقة وبالطبع تخالفني في الوجهة.
مرت الثواني القاتلات ما بين خروجها من عربة القطار وبين تفكيري للمرة المليون بعد المليار في ثانية واحدة أن اتبعها وفي الثانية الأخرى أن أتوقف عن ذلك الجنون، أوقظتني صافرة القطار معلنة انتهاء مهلة التفكير ودنو لحظة القرار ولكن انقضت المهلة دون أن أحرك ساكنًا من مقعدي، كيف السبيل إلى الحراك وذلك هو القطار الوحيد إلى مدينتي.
وصلت إلى المنزل أجر أذيال جبني، ماذا منعني من القفز خلفها حتى أسألها حتى عن اسمها؟.
بدأت في ممارسة لعبة الخيال التي أجيدها، لابد أن اسمها "سوسن" فلم تكن تنتمي إلى البشر، حتمًا هي زهرة، فماذا عساها تكون؟.
"سوسن" أعدك غدًا حين أراك سأقفز من القطار واتبعك، لن أكترث إذا قضيت ليلة كاملة في جحيم ذلك الشتاء الجهنمي القارص فقط لأسمعك تنطقينها "اسمي سوسن".
مر شهر كامل أراها كل يوم وتعجز قدماي عن مغادرة المقعد قبل صوت الصفير الخانق للقطار، أقسم لك أن خوفي سيتلاشى غدًا، وسأمزق كبد الحوت مخترقًا أحشائه للعبور إليك.
ولم يأت غدًا، أو جاء ولكنك أنت من لم تحضري، ومر غد وأخر وتبعه العشرات العشرات من الغد، كل غد منهم يتحول أمسًا حينما لا تحضرين، يالذلك الروتين اللعين، حرمني حق التطلع لغد أجمل وسلبني رفاهية الرضا، يالذلك الروتين ويالجبني اللعين أضعت الفرصة تلو الأخرى لأنني خشيت المكوث وحيدًا ولليلة واحدة في برد كانون، لم أكن أعلم أن كانون سيطول ليحتل جميع شهور العام داخل قلبي، فلتستعد تلك الأضلع الخائفة لأعوامٍ وأعوامٍ من الصقيع.

مقالات يونسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن