الفصل الاول

35 6 4
                                    

مخلوقة إقتحمت حياتي !
توفي عمي و زوجته في حادث مؤسف قبل شهرين ، و تركا طفلتهما الوحيدة ( رغد ) و التي تقترب من الثالثة من عمرها ... لتعيش يتيمة مدى الحياة . 
في البداية ، بقيت الصغيرة في بيت خالتها لترعاها ، و لكن ، و نظرا لظروف خالتها العائلية ، اتفق الجميع على أن يضمها والدي إلينا و يتولى رعايتها  من الآن فصاعدا . 
أنا و أخوتي لا نزال صغارا ، و لأنني أكبرهم سنا فقد تحولت فجأة إلى  ( رجل راشد و مسؤول ) بعد حضور رغد إلى بيتنا . 
كنا ننتظر عودة أبي بالصغيرة ، (سامر) و ( دانة ) كانا في قمة السعادة لأن عضوا جديدا سينضم إليهما و يشاركهما اللعب ! 
أما والدتي فكانت متوترة و قلقة 
أنا لم يعن ِ لي الأمر الكثير 
أو هكذا كنت أظن ! 
وصل أبي أخيرا .. 
قبل أن يدخل الغرفة حيث كنا نجلس وصلنا صوت صراخ رغد ! 
سامر و دانة قفزا فرحا و ذهبا نحو الباب راكضين 
" بابا بابا ... أخيرا ! " 
قالت دانه و هي تقفز نحو أبي ، و الذي كان يحمل رغد على ذراعه و يحاول تهدئتها لكن رغد عندما رأتنا ازدادت صرخاتها و دوت المنزل بصوتها الحاد ! 
تنهدت و قلت في نفسي : 
" أوه ! ها قد بدأنا ! " 
أخذت أمي الصغيرة و جعلت تداعبها و تقدم إليها الحلوى علها تسكت ! 
في الواقع ، لقد قضينا وقتا عصيبا و مزعجا مع هذه الصغيرة ذلك اليوم . 
 
" أين ستنام الطفلة ؟ " 
سأل والدي والدتي مساء ذلك اليوم . 
" مع سامر و دانه في غرفتهما ! " 
دانه قفزت فرحا لهذا الأمر ، إلا أن أبي قال : 
" لا يمكن يا أم وليد ! دعينا نبقيها معنا بضع ليال إلى أن تعتاد أجواء المنزل، أخشى أن تستيقظ ليلا و تفزع و نحن بعيدان عنها ! " 
و يبدو أن أمي استساغت الفكرة ، فقالت : 
" معك حق ، إذن دعنا ننقل السرير إلى غرفتنا " 
ثم التفتت إلي : 
" وليد ،انقل سرير رغد إلى غرفتنا " 
اعترض والدي : 
" سأنقله أنا ، إنه ثقيل ! " 
قالت أمي : 
" لكن وليد رجل قوي ! إنه من وضعه في غرفة الصغيرين على أية حال ! " 
(( رجل قوي )) هو وصف يعجبني كثيرا ! 
أمي أصبحت تعتبرني رجلا و أنا في الحادية عشرة من عمري ! هذا رائع ! 
قمت بكل زهو و ذهبت إلى غرفة شقيقي و نقلت السرير الصغير إلى غرفة والدي . 
عندما عدتُ إلى حيث كان البقية يجلسون ، وجدتُ الصغيرة نائمة بسلام ! 
لابد أنها تعبت كثيرا بعد ساعات الصراخ و البكاء التي عاشتها هذا اليوم ! 
أنا أيضا أحسست بالتعب، و لذلك أويت إلى فراشي باكرا . 
 
~~~~~~~~~ 
 
نهضت في ساعة مبكرة من اليوم التالي على صوت صراخ اخترق جدران الغرفة من حدته ! 
إنها رغد المزعجة 
خرجت من غرفتي متذمرا ، و ذهبت إلى المطبخ المنبعثة منه صرخات ابنة عمي هذه 
" أمي ! أسكتي هذه المخلوقة فأنا أريد أن أنام ! " 
تأوهت أمي و قالت بضيق : 
" أو تظنني لا أحاول ذلك ! إنها فتاة ٌصعبة ٌ جدا ! لم تدعنا ننام غير ساعتين أو ثلاث والدك ذهب للعمل دون نوم ! " 
كانت رغد تصرخ و تصرخ بلا توقف . 
حاولت أن أداعبها قليلا و أسألها : 
" ماذا تريدين يا صغيرتي ؟ " 
لم تجب ! 
حاولت أن أحملها و أهزها ... فهاجمتني بأظافرها الحادة ! 
و أخيرا أحضرت إليها بعض ألعاب دانه فرمتني بها ! 
إنها طفلة مشاكسة ، هل ستظل في بيتنا دائما ؟؟؟ ليتهم يعيدوها من حيث جاءت ! 
في وقت لاحق ، كان والداي يتناقشان بشأنها . 
" إن استمرت بهذه الحال يا أبا وليد فسوف تمرض ! ماذا يمكنني أن أفعل من أجلها ؟ " 
" صبرا يا أم وليد ، حتى تألف العيش بيننا " 
قاطعتهما قائلا : 
" و لماذا لا تعيدها إلى خالتها لترعاها ؟ ربما هي تفضل ذلك ! " 
أزعجت جملتي هذه والدي فقال : 
" كلا يا وليد ، إنها ابنة أخي و أنا المسؤول عن رعايتها من الآن فصاعدا . مسألة وقت و تعتاد على بيتنا " 
و يبدو أن هذا الوقت لن ينتهي ... 
مرت عدة أيام و الصغيرة على هذه الحال ، و إن تحسنت بعض الشيء و صارت تلعب مع دانه و سامر بمرح نوعا ما 
كانت أمي غاية في الصبر معها ، كنت أراقبها و هي تعتني بها ، تطعمها ، تنظفها ، تلبسها ملابسها ، تسرح شعرها الخفيف الناعم ! 
مع الأيام ، تقبلت الصغيرة عائلتها الجديدة ، و لم تعد تستيقظ بصراخ و كان على وليد ( الرجل القوي ) أن ينقل سرير هذه المخلوقة إلى غرفة الطفلين ! 
بعد أن نامت بهدوء ، حملتها أمي إلى سريرها في موضعه الجديد . كان أخواي قد خلدا للنوم منذ ساعة أو يزيد . 
أودعت الطفلة سريرها بهدوء . 
تركت والدتي الباب مفتوحا حتى يصلها صوت رغد فيما لو نهضت و بدأت بالصراخ 
قلت : 
" لا داعي يا أمي ! فصوت هذه المخلوقة يخترق الجدران ! أبقه مغلقا ! " 
ابتسمت والدتي براحة ، و قبلتني و قالت : 
" هيا إلى فراشك يا وليد البطل ! تصبح على خير " 
كم أحب سماع المدح الجميل من أمي ! 
إنني أصبحت بطلا في نظرها ! هذا شيء رائع ... رائع جدا ! 
و نمت بسرعة قرير العين مرتاح البال . 
الشيء الذي أنهضني و أقض مضجعي كان صوتا تعودت سماعه مؤخرا 
إنه بكاء رغد ! 
حاولت تجاهله لكن دون جدوى ! 
يا لهذه الـ رغد ... ! متى تسكتيها يا أمي ! 
طال الأمر ، لم أعد أحتمل ، خرجت من غرفتي غاضبا و في نيتي أن أتذمر بشدة لدى والدتي ، إلا أنني لاحظت أن الصوت منبعث من غرفة شقيقي ّ  نعم ، فأنا البارحة نقلت سريرها إلى هناك ! 
ذهبت إلى غرفة شقيقي ّ ، و كان الباب شبه مغلق ، فوجدت الطفلة في سريرها تبكي دون أن ينتبه لها أحد منهما ! 
لم تكن والدتي موجودة معها . 
اقتربت منها و أخذتها من فوق السرير ، و حملتها على كتفي و بدأت أطبطب عليها و أحاول تهدئتها . 
و لأنها استمرت في البكاء ، خرجت بها من الغرفة و تجولت بها قليلا في المنزل 
لم يبد ُ أنها عازمة على السكوت ! 
يجب أن أوقظ أمي حتى تتصرف ... 
كنت في طريقي إلى غرفة أمي لإيقاظها ، و لكن ... 
توقفت في منتصف الطريق ، و عدت أدراجي ... و دخلت غرفتي و أغلقت الباب . 
والدتي لم تذق للراحة طعما منذ أتت هذه الصغيرة إلينا . 
و والدي لا ينام كفايته بسببها . 
لن أفسد عليهما النوم هذه المرة ! 
جلست على سريري و أخذت أداعب الصغيرة المزعجة و ألهيها بطريقة أو بأخرى حتى تعبت ، و نامت ، بعد جهد طويل ! 
أدركت أنها ستنهض فيما لو حاولت تحريكها ، لذا تركتها نائمة ببساطة على سريري و لا أدري ، كيف نمت ُ بعدها ! 
هذه المرة استيقظت على صوت أمي ! 
" وليد ! ما الذي حدث ؟ " 
" آه أمي ! " 
ألقيت نظرة من حولي فوجدتني أنام إلى جانب الصغيرة رغد ، و التي تغط في نوم عميق و هادىء ! 
" لقد نهضت ليلا و كانت تبكي .. لم أشأ إزعاجك لذا أحضرتها إلى هنا ! " 
ابتسمت والدتي ، إذن فهي راضية عن تصرفي ، و مدت يدها لتحمل رغد فاعترضت : 
" أرجوك لا ! أخشى أن تنهض ، نامت بصعوبة ! " 
و نهضت عن سريري و أنا أتثاءب بكسل . 
" أدي الصلاة ثم تابع نومك في غرفة الضيوف . سأبقى معها " 
ألقيت نظرة على الصغيرة قبل نهوضي ! 
يا للهدوء العجيب الذي يحيط بها الآن! 
بعد ساعات ، و عندما عدت إلى غرفتي ، وجدت دانه تجلس على سريري بمفردها . ما أن رأتني حتى بادرت بقول : 
" أنا أيضا سأنام هنا الليلة ! " 
أصبح سريري الخاص حضانة أطفال ! 
فدانه ، و البالغة من العمر 5 سنوات ، أقامت الدنيا و أقعدتها من أجل المبيت على سريري الجذاب هذه الليلة ، مثل رغد ! 
ليس هذا الأمر فقط ، بل ابتدأت سلسلة لا نهائية من ( مثل رغد ) ... 
ففي كل شيء ، تود أن تحظى بما حظيت به رغد . و كلما حملت أمي رغد على كتفيها لسبب أو لآخر ، مدت دانه ذراعيها لأمها مطالبة بحملها (مثل رغد ) . 
أظن أن هذا المصطلح يسمى ( الغيرة ) ! 
يا لهؤلاء الأطفال ! 
كم هي عقولهم صغيرة و تافهة ! 
 
~~~~~~ 
 
كانت المرة الأولي و لكنها لم تكن الأخيرة ... فبعد أيام ، تكرر نفس الموقف ، و سمعت رغد تبكي فأحضرتها إلى غرفتي و أخذت ألاعبها . 
هذه المرة استجابت لملاعبتي و هدأت ، بل و ضحكت ! 
و كم كانت ضحكتها جميلة ! أسمعها للمرة الأولى ! 
فرحت بهذا الإنجاز العظيم ! فأنا جعلت رغد الباكية تضحك أخيرا ! 
و الآن سأجعلها تتعلم مناداتي باسمي ! 
" أيتها الصغيرة الجميلة ! هل تعرفين ما اسمي ؟ " 
نظرت إلي باندهاش و كأنها لم تفهم لغتي . إنها تستطيع النطق بكلمات مبعثرة ، و لكن ( وليد ) ليس من ضمنها ! 
" أنا وليد ! " 
لازالت تنظر إلى باستغراب ! 
" اسمي وليد ! هيا قولي : وليد ! " 
لم يبد ُ الأمر سهلا ! كيف يتعلم الأطفال الأسماء ؟ 
أشرت إلى عدة أشياء ، كالعين و الفم و الأنف و غيرها ، كلها أسماء تنطق بها و تعرفها . حتى حين أسألها : 
" أين رغد ؟ " 
فإنها تشير إلى نفسها . 
" و الآن يا صغيرتي ، أين وليد ؟ " 
أخذت أشير إلى نفسي و أكرر : 
" وليد ! وليـــد ! أنا وليد ! 
أنت ِ رغد ، و أنا وليد ! 
من أنتِ ؟ " 
" رغد " 
" عظيم ! أنتِ رغد ! أنا وليد ! هيا قولي وليد ! قولي أنت َ وليد ! " 
كانت تراقب حركات شفتيّ و لساني ، إنها طفلة نبيهة على ما أظن . 
و كنت مصرا جدا على جعلها تنطق باسمي ! 
" قولي : أنــت ولـيـــد ! ولــيـــــــد ... 
قولي : وليد ... أنت ولـــــيـــــــــــــــــــــد ! " 
 
" أنت َ لــــــــــــــــــــي " !! 
 
 
كانت هذه هي الكلمة التي نطقت بها رغد ! 
( أنت َ لي ! ) 
للحظة ، بقيت اتأملها باستغراب و دهشة و عجب ! 
فقد بترت اسمي الجميل من الطرفين و حوّلته إلى ( لي ) بدلا من  ( وليد ) ! 
ابتسمت ، و قلت مصححا : 
" أنت َ وليـــــــــــــد ! " 
" أنت َ لــــــــــــــــــي " 
كررت جملتها ببساطة و براءة ! 
لم أتمالك نفسي ، وانفجرت ضحكا .... 
و لأنني ضحكت بشكل غريب فإن رغد أخذت تضحك هي الأخرى ! 
و كلما سمعت ضحكاتها الجميلة ازدادت ضحكاتي ! 
سألتها مرة أخرى : 
" من أنا ؟ " 
" أنت َ لـــــــــــــي " ! 
يا لهذه الصغيرة المضحكة ! 
حملتها و أخذت أؤرجحها في الهواء بسرور ... 
منذ ذلك اليوم ، بدأت الصغيرة تألفني ، و أصبحت أكبر المسؤولين عن تهدئتها متى ما قررت زعزعة الجدران بصوتها الحاد .... 
 
~~~~~~ 
 
انتهت العطلة الصيفية و عدنا للمدارس . 
كنت كلما عدت من المدرسة ، استقبلتني الصغيرة رغد استقبالا حارا ! 
كانت تركض نحوي و تمد ذراعيها نحوي ، طالبة أن أحملها و أؤرجحها في الهواء ! 
كان ذلك يفرحها كثيرا جدا ، و تنطلق ضحكاتها الرائعة لتدغدغ جداران المنزل ! 
و من الناحية الأخرى ، كانت دانة تطلق صرخات الاعتراض و الغضب ، ثم تهجم على رجلي بسيل من الضربات و اللكمات آمرة إياي بأن أحملها ( مثل رغد ) . 
و شيئا فشيا أصبح الوضع لا يطاق ! و بعد أن كانت شديدة الفرح لقدوم الصغيرة إلينا أصبحت تلاحقها لتؤذيها بشكل أو بآخر ... 
في أحد الأيام كنت مشغولا بتأدية واجباتي المدرسية حين سمعت صوت بكاء رغد الشهير ! 
لم أعر الأمر اهتماما فقد أصبح عاديا و متوقعا كل لحظة . 
تابعت عملي و تجاهلت البكاء الذي كان يزداد و يقترب ! 
انقطع الصوت ، فتوقعت أن تكون أمي قد اهتمت بالأمر . 
لحظات ، وسمعت طرقات خفيفة على باب غرفتي . 
" أدخل ! " 
ألا أن أحدا لم يدخل . 
انتظرت قليلا ، ثم نهضت استطلع الأمر ... 
و كم كانت دهشتي حين رأيت رغد واقفة خلف الباب ! 
لقد كانت الدموع تنهمر من عينيها بغزارة ، و وجهها عابس و كئيب ، و بكاؤها مكبوت في صدرها ، تتنهد بألم ... و بعض الخدوش الدامية ترتسم عشوائيا على وجهها البريء ، و كدمة محمرة تنتصف جبينها الأبيض ! 
أحسست بقبضة مؤلمة في قلبي .... 
" رغد ! ما الذي حدث ؟؟؟ " 
انفجرت الصغيرة ببكاء قوي ، كانت تحبسه في صدرها 
مددت يدي و رفعتها إلى حضني و جعلت أطبطب عليها و أحاول تهدئتها . 
هذه المرة كانت تبكي من الألم . 
" أهي دانة ؟ هل هي من هاجمك ؟ " 
لابد أنها دانة الشقية ! 
شعرت بالغضب ، و توجهت إلى حيث دانة ، و رغد فوق ذراعي . 
كانت دانة في غرفتها تجلس بين مجموعة من الألعاب . 
عندما رأتني وقفت ، و لم تأت إلي طالبة حملها ( مثل رغد ) كالعادة ، بل ظلت واقفة تنظر إلى الغضب المشتعل على وجهي . 
" دانة أأنت من ضرب رغد الصغيرة ؟ " 
لم تجب ، فعاودت السؤال بصوت أعلى : 
" ألست من ضرب رغد ؟ أيتها الشقية ؟ " 
" إنها تأخذ ألعابي ! لا أريدها أن تلمس ألعابي " 
اقتربت من دانة و أمسكت بيدها و ضربتها ضربة خفيفة على راحتها و أنا أقول : 
" إياك أن تكرري ذلك أيها الشقية و إلا ألقيت بألعابك من النافذة " 
لم تكن الضربة مؤلمة إلا أن دانة بدأت بالبكاء ! 
أما رغد فقد توقفت عنه ، بينما ظلت آخر دمعتين معلقتين على خديها المشوهين بالخدوش . 
نظرت إليها و مسحت دمعتيها . 
ما كان من الصغيرة إلا أن طبعت قبلة مليئة باللعاب على خدي امتنانا ! 
ابتسمت ، لقد كانت المرة الأولى التي تقبلني فيها هذه المخلوقة ! إلا أنها لم تكن الأخيرة .... 
 
~~~~~~ 
 
توالت الأيام و نحن على نفس هذه الحال ... 
إلا أن رغد مع مرور الوقت أصبحت غاية في المرح ... 
أصبحت بهجة تملأ المنزل ... و تعلق الجميع بها و أحبوها كثيرا ... 
إنها طفلة يتمنى أي شخص أن تعيش في منزله ... 
و لأن الغيرة كبرت بين رغد و دانة مع كبرهما ، فإنه كان لابد من فصل الفتاتين في غرفتين بعيدا عن بعضهما ، و كان علي نقل ذلك السرير و للمرة الثالثة إلى مكان آخر ... 
و هذا المكان كان غرفة وليد ! 
ظلت رغد تنام في غرفتي لحين إشعار آخر . 
في الواقع لم يزعجني الأمر ، فهي لم تعد تنهض مفزوعة و تصرخ في الليل إلا نادرا ... 
كنت أقرأ إحدى المجلات و أنا مضطجع على سريري ، و كانت الساعة العاشرة ليلا و كانت رغد تغط في نوم هادئ 
و يبدو أنها رأت حلما مزعجا لأنها نهضت فجأة و أخذت تبكي بفزع ... 
أسرعت إليها و انتشلتها من على السرير و أخذت أهدئ من روعها 
كان بكاؤها غريبا ... و حزينا ... 
" اهدئي يا صغيرتي ... هيا عودي للنوم ! " 
و بين أناتها و بكاؤها قالت : 
" ماما " 
نظرت إلى الصغيرة و شعرت بالحزن ... 
ربما تكون قد رأت والدتها في الحلم 
" أتريدين الـ ماما أيتها الصغيرة ؟ " 
" ماما " 
ضممتها إلى صدري بعطف ، فهذه اليتيمة فقدت أغلى من في الكون قبل أن تفهم معناهما ... 
جعلت أطبطب عليها ، و أهزها في حجري و أغني لها إلى أنا استسلمت للنوم . 
تأملت وجهها البريء الجميل ... و شعرت بالأسى من أجلها . 
تمنيت لحظتها لو كان باستطاعتي أن أتحول إلى أمها أو أبيها لأعوضها عما فقدت . 
صممت في قرارة نفسي أن أرعى هذه اليتيمة و أفعل كل ما يمكن من أجلها ... 
و قد فعلت الكثير ... 
و الأيام .... أثبتت ذلك ... 
 
~~~~~~ 
 
ذهبنا ذات يوم إلى الشاطئ في رحلة ممتعة ، و لكوننا أنا و أبي و سامر الصغير ( 8 سنوات ) نجيد السباحة ، فقد قضينا معظم الوقت وسط الماء . 
أما والدتي ، فقد لاقت وقتا شاقا و مزعجا مع دانة و رغد ! 
كانت رغد تلهو و تلعب بالرمال المبللة ببراءة ، و تلوح باتجاهي أنا و سامر ، أما دانة فكانت لا تفتأ تضايقها ، تضربها أو ترميها بالرمال ! 
" وليد ، تعال إلى هنا " 
نادتني والدتي ، فيما كنت أسبح بمرح . 
" نعم أمي ؟ ماذا تريدين ؟ " 
و اقتربت منها شيئا فشيئا . قالت : 
" خذ رغد لبعض الوقت ! " 
" ماذا ؟؟؟ لا أمي ! " 
لم أكن أريد أن أقطع متعتي في السباحة من أجل رعاية هذه المخلوقة ! اعترضت :
" أريد أن أسبح ! " 
" هيا يا وليد ! لبعض الوقت ! لأرتاح قليلا " 
أذعنت للأمر كارها ... و توجهت للصغيرة و هي تعبث بالرمال ، و ناديتها : 
" هيا يا رغد ! تعالي إلي ! " 
ابتهجت كثيرا و أسرعت نحوي و عانقت رجي المبللة بذراعيها العالقة بهما حبيبات الرمل الرطب ، و بكل سرور ! 
جلست إلى جانبها و أخذت أحفر حفرة معها . كانت تبدو غاية في السعادة أما أنا فكنت متضايقا لحرماني من السباحة ! 
اقتربت أكثر من الساحل ، و رغد إلى جانبي ، و جعلتها تجلس عند طرفه و تبلل نفسها بمياه البحر المالحة الباردة 
رغد تكاد تطير من السعادة ، تلعب هنا و هناك ، ربما تكون المرة الأولى بحياتها التي تقابل فيها البحر ! 
أثناء لعبها تعثرت و وقعت في الماء على وجهها ... 
" أوه كلا ! " 
أسرعت إليها و انتشلتها من الماء ، كانت قد شربت كميه منه ، و بدأت بالسعال و البكاء معا . 
غضبت مني والدتي لأنني لم أراقبها جيدا 
" وليد كيف تركتها تغرق ؟ " 
" أمي ! إنها لم تغرق ، وقعت لثوان لا أكثر " 
" ماذا لو حدث شيء لا سمح الله ؟ يجب أن تنتبه أكثر . ابتعد عن الساحل . " 
غضبت ، فأنا جئت إلى هنا كي استمتع بالسباحة ، لا لكي أراقب الأطفال ! 
" أمي اهتمي بها و أنا سأعود للبحر " 
و حملتها إلى أمي و وضعتها في حجرها ، و استدرت مولّيا . 
في نفس اللحظة صرخت دانة معترضة و دفعت برغد جانبا ، قاصدة إبعادها عن أمي 
رغد ، و التي لم تكد تتوقف عن البكاء عاودته من جديد . 
" أرأيت ؟ " 
استدرت إلى أمي ، فوجدت الطفلة البكاءة تمد يديها إلي ... 
كأنها تستنجد بي و تطلب مني أخذها بعيدا . 
عدت فحملتها على ذراعي فتوقفت عن البكاء ، و أطلقت ضحكة جميلة ! 
يا لخبث هؤلاء الأطفال ! 
نظرت إلى أمي ، فابتسمت هي الأخرى و قالت : 
" إنها تحبك أنت َ يا وليد ! " 
 
قبيل عودتنا من هذه الرحلة ، أخذت أمي تنظف الأغراض ، و الأطفال . 
" وليد ، نظف أطراف الصغيرة و ألبسها هذه الملابس " 
تفاجأت من هذا الطلب ، فأنا لم أعتد على تنظيف الأطفال أو إلباسهم الملابس ! 
ربما أكون قد سمعت شيئا خطا ! 
" ماذا أمي ؟؟؟ " 
" هيا يا وليد ، نظف الرمال عنها و ألبسها هذه ، فيما اهتم أنا بدانة و بقية الأشياء " 
كنت أظن أنني أصبحت رجلا ، في نظر أمي على الأقل ... 
و لكن الظاهر أنني أصبحت أما ! 
أما جديدة لرغد ! 
نعم ... لقد كنت أما لهذه المخلوقة ... 
فأنا من كان يطعمها في كثير من الأحيان ، و ينيمها في سريره ، و يغني لها ، و يلعب معها ، و يتحمل صراخها ، و يستبدل لها ملابسها في أحيان أخرى ! 
و في الواقع ... 
كنت أستمتع بهذا الدور الجديد ... 
و في المساء ، كنت أغني لها و أتعمد أن أجعلها تنام في سريري ، و أبقى أتأمل وجهها الملائكي البريء الرائع ... و أشعر بسعادة لا توصف ! 
هكذا ، مرت الأيام ... 
و كبرنا ... شيئا فشيئا ... 
و أنا بمثابة الأم أو المربية الخاصة بالمدللة رغد ، و التي دون أن أدرك ... أو يدرك أحد ... أصبحت تعني لي ... 
أكثر من مجرد مخلوقة مزعجة اقتحمت حياتي منذ الصغر !

...

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jul 15 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

انت لي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن