يتلو الليل الليل، كما لو أنني أطرف بعيني فلا يبقى منه شيء، لا ما يكاد يسهدني، ولا ما يجعلني أغفو سريعا؛ فتكون الأيام متشابهة، تلبس نفس الثوب، تنحو نحو ما يمحو، تركن إلى ما لا يدنو، فتضع رأسي حيث لا يوجد أديم، وتتركني دون نديم سوى نفسٍ دون نَفَسٍ، وجنبٍ دون عَضُدِ، فأكون كما يكون من به لَمَمٌ، لا أحمل شيء من أيامي سوى اللِّمَمَ.
فما بالي آتي شيء من همسات ثريّا هي ثرى لا أعلو إليها، لا أُخرِج رأسي من أين حُطَّ أحسبه إن علا أن بي شيءً من بليَّة؛ فأسمع، أصيخ إلى الأحزان دفعة واحدة، ثم أعود نائمة. كما لو أني بذلك أنجو، وليس في ذلك حقٌّ، فأنا أموت ألف ميتة، أبتعد عن الأديم والفضاء القديم إلى ظلام ليس بعده همسات تنبئني أني حية، أن لي عينًا ريَّة.
ليس بالأذن وحدها أكون، إن تركتُني وبقيت في جسدي فأنا إذا من الأموات. لست بي أكون، لسنا بنا نكون، عرفوا أن لنا طريقًأ إلينا فأعاقوه، وعرفنا الطريق إلينا وما صعدنا أو استجهدنا منَّا شيء لنصل إليه؛ فانعطفنا عنه إلى كل شيء، بأن وَهَمْنا أننا إلينا لن نكون. ليتنا نعود، ليتني أعود، ليست أماني فأنا أبتغي أن أكون، وقد رأيت ألف رؤيا بأني كونًا أكون، أو إلى نونٍ طيبِ الأُروَمة أَرُومُ ، وأن يوما عن ظل الكريم لن أزول.
ما بالي.. بل ما بالنا؟ وَبالنا في أيدينا، بل فينا، نَحُولُ بيننا وبيننا بالرُّدُمِ ونشكي أننا في بأس لا يحول عنا. هو كما قيل، حياتنا ومماتنا بأيدينا، إن بكينا أننا موتى، أو أننا لا نصل مهما سِرنا، ولا نُسَرُّ لا بالقليل ولا بالكثير، ولا نذكر من أيامنا إلا ضبابا لا ينقشع، فلننظر ماذا اقترفتنا. والحياة لا أعني ما فيها وما تطويه من بلوغ أمر، أو تحقيق نجاح باهر، بل ذاتها، لبُّ الحياة ما كان يوما سهل الوصول، أبعده أقول لنا "لا تيأسوا" لا، لن أقول، ولسنا طوابع لنردد ما يقال، إلينا سرًّا سأهمس كما نجوم الثَّرى، ففي الرحلة يكمن الاستيئاس، ما لم نستيئس فما لنا من إلينا.
وأخبرتك أننا نمضي، نُحملُ حملًا إلى الغد، نتدفق تدفق الأنهار من الأمس، نهب كالرياح إلى الخلف بأن الردفَ كان روح الحياة، أو قد نركض دون نَفَسٍ يُمَكِّننا من بلوغ الغد، أو نتخبط بين كل ذلك بأننا كنا خطب الطريق. أهلا بنا إلى اليوم قبل الغد، فكما كان لنا من الدنيا حيث نُذَرً، نموت، أو نلحد -باختلاف الممات- فلنا من حياتنا الخطوة التي نمشيها الآن.