44- ما قد مضى لم يمضِ.

4.7K 284 106
                                    

في زمنٍ شحَّتْ فيه الرجولة والنخوة كان صبري مثالًا واضحًا له، فالزوجة النادمة على اختيارها تبكي في الغرفة، يرتفع صوتها بين حينٍ وآخر فتصرخ به وتخبره بأنه أختيارها الأكثر سوءًا في حياةٍ مليئة بالأخطاء، وتعود فتتحسر على عمر ضاع وسيضيع برفقته فقط لأن العائلة تخشى لقب "مطلقة" أكثر من خوفهم على ابنتهم وحرصهم على سعادتها.

"بقولك إيه يا بت أنتِ، قسمًا بالله كلمة طلاق تيجي تاني على لسانك ما هسيبك لحد ما تقولي خلاص ياما حقي برقبتي، أنتِ عايزة تودينا في داهية! بلا دلع بلا كلام فاضي، ما هو راجل والرجالة كلهم كده! أنتِ اللي موكوسة مش عارفة تهدي جوزك بكلمتين حلوين وماسكالي في طلاق طلاق، حُرمك عليكِ عيشتك يا منيلة."
والأم.. المَسكن.. الأمان، باتت لابنتها مصدر خوف وتهديد.

لمع الاستسلام في عينيها، يائسة من كلماتٍ تتمنى لو تتبدل يومًا بأخرى تدعم قرارها، ولم تجد سوى استنكارًا لرغبتها في الاستغناء عن تلك الحياة برفقته، فخارت قواها باكية لا حول لها ولا قوة تصرخ وقد فاض بها الصبر:-
"أنا مش مستحملاه، مش قادرة أكون معاه في بيت واحد! ده جاي يستقوى عليَّ ويضربني أنا! ما كفاية بقى أنا استحملت كتير، استحملت العيشة معاكم ومعاه! حرام عليكم أنا تعبت."

اعتدلت السيدة تلملم عبائتها السوداء حولها، لم تتأثر عيناها ولم يرف لها جفن أمام كلمات ابنتها، ورفعت سبابتها محذرة في وعيدٍ توبخها:-
"هعمل نفسي مسمعتش منك كلمة، قسمًا بالله يا هدى يا بنت بطني لو اللي في دماغك ده طلع منك وقولتي عايزة أتطلق والكلام الفارغ بتاعك ده لتكوني مرمية في الشارع مين رايح ومين جاي يرموا عليكِ كلام ولا أدخلك بيتي، إنما أنتِ لو ناصحة.. تجيبيلك حتة عيل تربطيه بيه وتخلي فرعنة حماتك دي تخف شوية، وبكلمتين حلوين تخليه خاتم في صباعك ويقوم شايلك على كفوم الراحة شيل.. إنما أقول إيه! منيلة مبتفهمش."

ويأتي الطفل بين عائلته مشتَّتة يُشفق الجميع على حاله، بين أم تحيا خوفًا من نظرة مجتمع وبين أب طائش همه كله مخدر وفتاة تتدلل أمام عيناه، فيكبر الطفل على يد طفلة لم تترك لها الحياة فرصة العيش، وتصبح عائلة زادها البؤس فردًا.. ولكنّها عائلة.. بأعين المجتمع عائلة.

غادرت السيدة وقد نبهت عينيها عن مستقبلٍ مظلم أدركته هدى إن غادرت ذلك المنزل، وكأن زواجها عهد لا تقدر على التراجع عنه، قدر سيحدث شاءت أم رفضت، ولم تترك لها الحياة فرصة التمرُّد لتقع أرضًا باكية، تحتضن كفيها عَبرات تهرب من عينيها، تبكي وليس لها سوى البكاء حلًا، وتضرب جسدها وكأنّها تنتقم من الجميع فيها، وتصرخ بصوتٍ مبحوح لم يعد قادر على الشكوى بما لا يُقدَّر:-
"حرام.. حرام عليكم اللي بيحصل لي.. حرام سيبوني في حالي بقى سيبوني أعيش."
وهي فتاة كل ما تتمناه أن تحيا، وهل الحياة لها مستحيلة!

أشباهُكِ الأربعون.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن