- مقدمة : ملامح حياة فلاديمير تورجينيف

9 2 1
                                    

الفراغ، كل شيء يحوي الفراغ في هذا المكان.

لم أتصور اني سأعيش هاته الحياة،
لم تكن حياتي منصفة على أي حال،
لكني على الأقل كنت في دائرة الوجود.

بالمناسبة، أحب الرسم كثيرًا، لكن لا أجيده

ماذا يعرف والداي عني ؟
لا شيء، أنا لست سوى بديل، يعرفان جيدًا هويّة الشخص الذي استبدلوني به، أما أنا.. فـ ممحي.
أنا تعويضٌ عن الفقيد، أخي الأكبر الذي قتل نفسه.. لطالما كان والداي يقودانه لقتل نفسه باستمرار، ولكي يغفروا خطيئتهم أسموني باسمه وتظاهروا بأنه على قيد الحياة، مفتعلين خطيئة أخرى بقتل روحي هذه المرة.

لم يكن لي وجودٌ من الأساس
لم يكن لي هوية، ولا اسم، ولا شيء.

" فلاديمير "

أهذا أنا ؟
أم نسخة أخرى منه ؟

كان يوم مولدي هو يوم وفاة أخي، لكن لمَ كان عليّ أن أموت بدلًا عنه ؟ ربما لأنه كان من المفترض أن لا أولد من الأساس.. ويعيش فلاديمير من جديد.

---

شعر أسود كالفحم وعينان غامقتان في وجه بائس، جسدٌ يهوي بنفسه للأمام بدل المشي، كم ثقيلة هي خطواته..

عائد من عمله ذو الدوام الجزئي، هو يفعل أي شيء كي لا يعود للمنزل بعد انتهاء يومه الدراسي، لكنه في غسق الليل يعود لأنه ليس لديه خيارًا اخر.
دلف المنزل بهدوء، وكعادته ينفث الهواء براحة لأن والديه قد خلدوا للنوم.

هما لا ينتظران عودته متأخرًا، لا يهتمان كثيرًا بشأنه، هما فقط يحبان كون اسم " فلاديمير " لايزال يُلفظ.
رغم موت ابنهما الأكبر قبل ثمانية عشر عامًا، لم يتمكنا من تجاوز تلك الصدمة، ابنهما العزيز والوحيد، الفتى المطيع كالدمية المتحركة، أحبّوا كونه ساكن، هادئ، يستمر في الحصول على العلامات الكاملة في كل شيء.

بصمت تام يومئ برأسه على جملة " لن أقبل بأقل من هذا " دون أن يذكر كونه متعب..
نسيَ احتياجاته كشخص على قيد الحياة، فقد نفسه وشخصيته وإدراكه بذاته، بات كالمهمش يسعى بجنون لكي لا يخيّب أمل والديه الفخورين وحسب، كان يخاف تلك النظرة على وجه أبيه اذا خسر علامة واحدة في اختباراته، يخشى كثيرًا أن يكون المُلام على شيءٍ ليس بيده.

يتجنب أن يفكر في نفسه المفقودة
لدرجة أنه انتحر حين عثر عليها أخيرًا.

---

في غرفته الفوضوية حيث اللوحات وعُلب الألوان المسكوبة على الطاولة، الأرضية المغطاة بالملابس وفرش الطلاء، حيث قرب سريره يوجد البعض من قطرات الدماء حينما كان يمزق ذراعيه الليلة الماضية.
كان يجلس على الكرسي المكسور أمام لوحة يرسمها، تحفته الفنية الجديدة، في الواقع هو يجيد الرسم كثيرًا لكنه يستمر بقول " فظيع " بعد كل لوحة ينهيها.

لا يحب أيًا مما يفعله، حتى كونه يتنفس.

لوحة جميلة يتخللها اللونين الأزرق والأصفر، حقل عباد الشمس أسفل السماء الصافية، مشهد يعبر عن مدى جمال فصل الربيع، هو للتو انتهى من معظمها ليضع الفرشاة جانبًا ويتأملها لعدة دقائق، لا تزال ينقصها القليل لكنه قرر أن يكملها لاحقا.

بعد ذلك نهض متجهًا نحو سريره ليلقي بجسده فوقه ويزفر الهواء بعمق، بصره مصوب على السقف ككل ليلة حيث سيبدأ بالتفكير حتى يغلبه النعاس.
نظر إلى اللوحة من بعيد حيث تقبع في زاوية غرفته، أطال النظر قليلًا وقال بصوت خافت :

" كم أتمنى أن أغادر نحو الربيع "

وأغمض عيناه.

---

صباح اليوم التالي

استيقظ على رنين المنبه، لكن لم يقم بإيقافه، اثناء ذلك حدّث نفسه قائلًا بصوتٍ نصف نائم :

" رأيت كابوسًا كانت الساعة فيه متوقفة، لا ينبغي أن أرى الساعة في حلمٍ من الأساس .. "

لم يكن مذعورًا قدر ما كان هذا الكابوس حقًا مريع، بدى وكأنه مجرد حلمٍ له، فبأي حال هو يحب أن يرى كوابيسًا لا معنى لها كي يستغرقه الأمر التفكير فيها طيلة اليوم، ببساطة يعجبه كيف أن افكاره تأخذ عقله عن الوعي، يغرق فيها دون ادراك ويغادر الواقع إلى مكانٍ فارغ ليس فيهِ سوى صوته الهامس.

أطفأ رنين المنبه أخيرًا، لكنه قرر أن يبقى في غرفته لبقية اليوم.. يريد أن يكمل لوحته..
نهض يأخذ خطواته نحو تلك الزاوية وأمسك بالفرشاة، لينتهي بعد مدة منها ولم يشعر بالوقت أثناء انغماسه في وضع اللمسات الأخيرة.

أمسك برقبته التي باتت تؤلمه إثر الجلوس بوضعية خاطئة، لذا قرر أن يستقيم عن مكانه كي يستريح، فاتجه للشرفه يستنشق بعض الهواء العليل عساه أن يمنحه القليل من الشغف ليكمل يومه...

لكن ما لبث قليلًا حتى شعر أن ضوء الشمس الذي كان يتخلل الغرفة وما حوله.. قد بدأ يتلاشى.

الفراغ - Пустота ( The void )حيث تعيش القصص. اكتشف الآن