1

1.1K 63 33
                                    

كانت تمشي بخطواتها الصغيرة في ممرات الدار النظيفة والمنمقة بشكل جميل، هذي الدار اللي من وعت على نفسها وهي فيها ما تذكر ان لها بيت ثاني غير هالبيت، أو عيلة ثانية غير أخوانها وخواتها اللي يفوق عددهم الـ ٤٠ طفل بإعمار وأشكال وأجناس مختلفة جميعهم في دار وحدة تحت مسمى واحد "دار الأيتام" ابتسمت بخفة لما دخلت غرفة مديرة الدار اللي استقبلتها بإبتسامة صادقة: هلا وجداني، شخبارج؟
نزلت المديرة لمستواها الصغير تلعب بخصلات شعرها وابتسمت وجدان بخفة: ماما نعيمة انا مبسوطة بروح للمدرسة مع أخواني بعد أسبوعين..
رفعت عيونها المديرة على المشرفة اللي كانت تمسك كفوف وجدان ووصلتها لين عندها: خلاص انتي روحي
تركت المشرفة وجدان وطلعت من المكتب، وجلست وجدان بحجمها الصغير على الكرسي تقابل المديرة: تحبين تدرسين؟
هزت وجدان رأسها بحماس: ثامر يقول راح بنشوف ناس كثير برا ويصير عندنا اصدقاء...
قاطعتها المديرة بِحنية: صحيح، لكن اليوم ابيج تتعرفين على صديقتي، و ابي تكونين لطيفة معاها طيب؟
ارتخت ابتسامة وجدان بخفة: ليه؟
كانت تخاف من جواب المديرة، تخاف من تكرار نفس الزيارة المُعتادة من وعت على نفسها وعمرها ٤ سنوات تقريباً وهي تشوف ناس يقابلونها شهرياً يحبونها ويستلطفونها ويرغبون في تبنيها و احتضانها لكن وجدان في كل مرة ترفضهم وتسوي مصيبة تخليهم يتراجعون، كانت صغيرة وما تفهم شيء ولا تعرف أحد خارج أسوار الدار، العالم كله بالنسبة لها داخل المجمع السكني الكبير اللي حجزته الدولة كَدار أيتام لها وللأطفال مجهولين الأب نفسها، والحين لما قربت تكمل ٧ سنوات وتدخل أول صفوفها المدرسية ومتحمسة لهالمرحلة تعيشها مع أخوانها يصدمونها بخبر المقابلة، بعمرها هذاك ماكانت فاهمة شي، الأمر الوحيد اللي فهمته هو "لو رحت معاهم راح اشتاق حق اخواني.." كانت تخاف وترفض كل فكرة، رغم انها طفلة جميلة و مُحببة لكل من يراها، لكن في كل مقابلة تظهر اسوء خصالها وتحاول تطفشهم...
ابتسمت المديرة: عشان تروحين ويكون عندج بيت كبير، و عيلة حقيقية....
نطقت وجدان بنبرة طفولية بريئة: انتوا عيلتي!
هزت المديرة رأسها بالنفي: صحيح، لكن ما تبين يكون عندج أم و أب خاصين فيج انتي بروحج؟ محد يشاركج فيهم!
كانت المديرة تتكلم وتحاول تستعطف وجدان اللي تسمع كلامها من أذن وتطلعه من الأذن الثانية، ترفض هالفكرة ولا هي فاهمة شيء من اللي تقوله المديرة، بالنسبة لها هذا بيتها و هذيل أهلها وعيلتها، ليه يبون يفرقونها عنهم؟
بعد دقايق دخلت امرأة في الثلاثينات من عمرها، أنيقة وبمظهر مُخيف نزلت نظارتها الشمسية و تأملت وجدان وابتسمت ابتسامة رضا وناظرت المديرة: هذي هي؟
هزت رأسها المديرة: اي نعم، هذي هي وجدان بنتنا...
وقفت وجدان بحزم و ضربت اقدامها على الأرض بقوة ورفعت حاجبها بانزعاج وهي تناظر للمرأة: مابي اروح معاج!!!!!
وقفت المديرة: وجدان عيب!!!
نفضت رأسها وجدان بحدة: ما احبها ولا احبكم!! مااااابي!!!!!!
طلعت تركض من مكتب المديرة وتخرج من المبنى المُخصص للادارة والشؤون المدنية في المجمع السكني وهو عبارة عن فيلا بنفس تصميم باقي الفلل الأخرى، ركضت تخرج متوجهة لحديقة المجمع وتشوف باقي أخوانها يناظرونها باستغراب، جلست على كرسي الحديقة في عَز القوايل و شمس الظهر الحارقة لكنها ما اهتمت لهذا كله، تحس بالغضب من المديرة وكل شخص يحاول يطلعها من بيتها ومكانها الأمن...
"وجدان!!"
كان صوت ثامر ألتفت تناظره ورجعت تصد عنها تتأمل الألعاب واخوانهم الصغار يلعبون، تقدم ثامر يجلس جنبها على الكرسي الخشبي في الحديقة: ليه زعلانة؟
تنهدت: المديرة، تبي ترسلني أعيش بعيد عنكم...
سكت ثامر وعقد حاجبه: وليه ما تروحين؟
كان سؤاله سؤال طفل بريء، طفل ينتظر من سنين طويلة شَخص ما يحن عليه ويتبناه ويطلعه من هذا البيت
ناظرته وجدان بنفس البراءة: الدنيا برا تخوف، ما عندي ثامر يحميني ولا اخوان كثير ألعب معاهم...
ضحك ثامر وضرب رأسها بخفة: يا غبية برا يكون عندج بيت حقيقي و أم و أب حقيقين، انا لو مكانج أروح!
عقدت حاجبها: تروح وتخليني عادي؟
هز رأسها بأريحية: اقدر أزوركم هنا ماراح نسافر بعيد عادي واقدر اشوف باقي أخواني بالمدارس بس يصير عندي ماما و بابا حقي انا بروحي..
دفعته وجدان بعيد عنها: مابي ماما و بابا ما أعرفهم
تركت ثامر يجلس بالحديقة وتوجهت للفيلا المخصصة للبنات ما بين ٦-١٢ سنة، وبعدها ينتقلون للفيلا المخصصة للبالغات، والأولاد نفس الشيء، و في فيلا تكون مخصصة للرضع إلى عمر ٥ سنوات تقريباً، يفصلون بين الأولاد والبنات لكنهم يجتمعون بشكل متكرر في الحديقة كَعائلة وحدة ويكونون ذكريات جميلة داخل إسوار الدار، وتحت انظار المديرة والمشرفات والاخصائيات والمربيات اللي كانوا معاهم من سنين، وأغلب الاطفال اللي دخلوا الدار رُضع كان في مُرضعة مخصصة لهم لهذا أغلبهم يكونون أخوة بالرضاعة...
دخلت غرفتها وناظرت اختها سارة تتجهز، بكامل أناقتها تلبس فستانها الوردي الناعم وتخرج مع المشرفة، مَدت عنقها القصير من نافذة الغرفة تشوفهم متوجهين لمبنى الإدارة، وبعد ساعة من الانتظار شافتهم يخرجون، وهذي المرة سارة تركتها وراحت مع الأم الجديدة.. مثلها مثل غيرها من الإخوان و الاخوات على مدار السنين الماضية، كانت وجدان في كل مرة الخيار الأول وبعد طباعها الشينة وتمردها وجموحها، يطيح اختيارهم لطفل ثاني يكون اكثر لطافة و أليف للترويض بشكل أسهل و أسرع من وجدان العاصية.. مَرت السنوات وهي على هذا الحال، وكلما كَبرت كلما زَاد نفورها من كل شَخص يقابلها للتبني والاحتضان، وكلما كبرت وفهمت وضعها وإنها مجهولة الأبوين والنسب والحَسب كلما زاد سخطها على العالم الخارجي، على كل أمهات العالم القاسيات، وعلى كل آباء العالم المُهملين.. كانوا بعض اخوتها في الدار بعد التبني يزورونهم لكن تدريجياً ينقطع تواصلهم معاهم، والبعض الأخر بمجرد ما يعتب خارج أسوار الدار ما يعود أبداً..
مرت سنين و كبرت، والدار فَضى و امتلى من جديد، وما بقى من جيلها القديم إلا هي جميعهم فَضلوا الرحيل للخارج، وهي بعد سنوات من سمعتها السيئة مع الآباء والأمهات صار محد يفضل يشوفها، والمديرة ما ترشحها لأي مُقابلة أخرى..
انحكم عليها بالوحدة بين جدرانها وأسوارها العالية، وما بقى لها أحد تذكره جميعهم رحلوا وأغلبهم راحوا بلا وداع.. وهي اقترب موعد خروجها النهائي من الدار، بكرا تكمل ١٨ سنة وتكون قدام خيار الرحيل ولا شيء سوا الرحيل مع تكفل الدولة فيها خارج الدار من دراسة ومأكل وملبس لين توقف على أقدامها، لكن رحيلها أمر لا مَفر منه..
فتحت الدريشة تناظر اخوانها الصغار يلعبون بالحديقة وصدى ضحكاتهم يملى المكان، صفرت لهم بصوت عالي وحاجب مرفوع، رفعوا عيونهم عليها وكَشرت بوجيهم، وراحوا بعيد يلعبون في مكان ثاني بعيد عن غَضب وجدان اللي ممكن يطولهم، تنهدت براحة لما ابتعدت أصواتهم عن غرفتها لكن سرعان ما تحولت هذي الراحة لنوع من الغضب مع دخول المديرة بنفسها لغرفة وجدان، وجدان اللي من سوء اطباعها ولا وحدة من البنات تحملت تبقى معاها بالغرفة وكلهم طلعوا، قعدت هي بالغرفة سنين لوحدها ولو حد فكر يشاركها الغرفة تضيّق عليه لين يطلع وينتقل لغرفة ثانية..
تنهدت المديرة: شلون النفسية اليوم، تخرجتي من الثانوية خلاص من شهور وما فكرتي تدخلين الجامعة؟
رفعت حاجبها وجدان باستياء: ليه مستعجلة؟ وراي العمر كله خليني اختار التخصص اللي ابيه براحتي..
ابتسمت المديرة: صحيح، لكن تدرين انا لما عينوني مديرة قبل ١٨ سنة صادف يوم تعييني يوم دخولج للمركز وانتي صغيرة رضيعة، كان عمرج أيام بس..
ابتسمت وجدان بسخرية وناظرت المديرة تشوف التجاعيد تزين وجهها وشعرها الأبيض تبان أطرافه مهما حاولت تخفيه بالصبغة، بان عليها الكَبر فعلاً: كان وجهي خير عليج، قعدتي بالمنصب ١٨ سنة كاملة..
ابتسمت المديرة: كل الأطفال اللي كان عددهم ٤٥ تقريباً لما دخلت، كلهم طلعوا و تم تبنيهم و احتضانهم وتطمنت عليهم، ما بقى الا أنتي يا وجدان! تدرين كان مفروض اقدم على التقاعد قبل ٣ سنوات لكنني رفضت، مابي اطلع و اتركج هنا..
ميلت وجدان ثغرها: يعني تقولين انا السبب؟
ضحكت المديرة: انتي ليه تهاجمين على طول؟ اقصد ما طاوعني قلبي اروح واتركج وراي، انا لما اتقاعد ابي اكون تطمنت على كل ولد وبنت من عيالي شافوا حياتهم و استقروا، حتى ثامر العام طلع وهذا هو الحين يدرس ووضعه تمام...
تنهدت وجدان لما تذكرت ثامر، كملت المديرة: ابي اتطمن عليج يا وجدان، بكرا تكملين ١٨ سنة ولازم تقولين لنا الخطة اللي راح تتبعينها بالخارج، على هالأساس نقدر نكمل معاج ونساعدج لين توصلين للحلم اللي تبينه!
رفعت أكتافها وجدان: ما أعرف، بسجل في الجامعة بأي تخصص، لكن الأكيد اني بكرا طالعة من هنا تطمني ماراح أأخر تقاعدج يوم زيادة، تحمليني ماما نعيمة..
قربت المديرة تحضنها: كل شيء برا راح يكون أجمل وأحلى من هنا، ماراح تندمين ولا يوم، بتشوفين الحرية كاملة..
ابتعدت عنها وجدان و صَدت رجعت تناظر الدريشة وتشوف الغروب، طلعت المديرة من الغرفة وقامت وجدان تجهز شنطتها وأغراضها، قالوا لها بتعيش في سكن الجامعة لين تتخرج وتتوظف ويسملونها سكن خاص فيها، ما تدري شنو تختار تخصص حتى وكل شيء في الحياة ضبابي ومُظلم مثل مستقبلها المُبهم، وين تروح وشنو تسوي؟ ماعندها فكرة..
أخذ منها الموضوع ساعات طويلة لين حَل الصباح، صعب تليها ترتيب الشنط وانها تشيل ذكرياتها في بيت اخذ من عمرها ١٨ سنة بحلوها و مُرها، ما تدري كم ضحكة تركت وراها وكم دمعة نست تضبطها بين أمتعتها وصناديق ذكرياتها، وقفت قدام مبنى الإدارة تشوف المشرفات والمربيات والاخصائيات والعاملات وحتى المرضعات وكل حد واقف ينتظرها، الا المديرة نعيمة ما كان لها وجود من ضمنهم..
ودعتهم، ودعت كل وحدة فيهم بتقدير و إمتنان على كل لحظة عاشتها معاهم، على كل حضن لجأت له في أصعب ليالها، وكل عين سهرت على راحتها لما مرضت، وكل يد جهزت لها طبخة تحبها وميزتها فيها، وكل كلمة قالوها لها من طيب خاطرهم و سروها، رغم سخطها الكبير على حياتها لكنها ما تنكر إنها كانت بنعمة كبيرة بينهم، كثير منهم شيبوا والكثير طلعوا وتركوا الدار من سنوات وتقاعدوا، لكنها مستحيل تنسى ولا شخص هنا..
تقدم العامل يشيل الشنط ويخرج من البوابة الرئيسية حيث تنتظرها السيارة، ممنوع السيارات الغير مصرح لها تدخل للمجمع السكني الخاص فيها..
ألتفت تشوفهم يلوحون لها من بعيد وابتسمت بخفة، ثم ناظرت أخوانها الصغار بأعمارهم وأحجامهم المختلفة يبكون بصمت، والبعض يناظرها بفرحة وكأنها حققت أحلامهم..
استدارت للأمام تمشي برأس مرفوع، ولأول مرة تخرج من الدار وهي تدري انها ماراح ترجع وتحط رأسها على المخدة وتنام بأمان في وجود كل هالاشخاص اللي يحبونها ويهتمون فيها، ينتظرها عالم حقيقي وواقعي، عالم ما تعرف خيره من شره، ركبت السيارة وانصدمت بوجود نعيمة تجلس بالمقعد الخلفي معاها و ابتسمت نعيمة: مستعدة؟
تجمعت الدموع في عيون وجدان: توقعت ماراح تودعيني..
مسكت نعيمة كفوفها: تعرفيني أحب أخلص شغلي على اكمل وجه، بوصلج لين بوابة سكن الجامعة وبعدها الحياة تنتظرج..
ابتسمت وجدان براحة، على الأقل نعيمة راح تدخل معاها للسكن وتتطمن عليها..
كانت رحلتهم لين بوابة السكن الجامعي هادية، وجدان تحاول ما تناظر عيون نعيمة تخاف تتراجع عن كل شيء باللحظة الاخيرة، ونعيمة بين دقايق صمتهم الطويل كانت تعطيها حِكم ومواعض وتحاول تشجعها..
أخذت نفس طويل وجدان قبل تنزل من السيارة وتدخل لمبنى السكن الجامعي، وقفت نعيمة تناظرها تَجر خطواتها بتثاقل وتلتفت للخلف بين كل خطوة والثانية وتبتسم لها...
لوحت لها نعيمة من بعيد ثم ركبت السيارة وحركت، ابتسمت وجدان بسخرية وهي تشوفها تبتعد ثم رجعت تلتفت تشوف مبنى السكن الجامعي الفخم، طلعت بطاقة دخولها وفتحت البوابة ودخلت بكل هدوء وبدون ما تسأل اي شخص توجهت بنفسها تستكشف المبنى وتدور على الغرفة المخصصة لها..
وصلت للغرفة وفتحت الباب بهدوء وشافت بنت ثانية تستقبلها، عقدت حاجبها وجدان بخفة و سلمت ببرود على البنات، كانت شقتهم عبارة عن غرفتين وصالة صغيرة وحمام مشترك ومطبخ تحضيري..
رمت عبايتها بإهمال وتمددت على السرير بالوقت اللي سمعت صوت خافت خلف الباب: ممكن ادخل؟
استعدلت بجلستها: تفضلي..
دخلت زميلتها بالسكن: جهزت غداء خفيف لو حابة تاكلين معاي، وعلى فكرة انا اسمي جوري و أدرس سنة أولى طب
ابتسمت وجدان بتصنع: وانا وجدان، سنة أولى علاج طبيعي..
طلعت جوري من الغرفة بعد محادثة بسيطة كان واضح فيها ان وجدان ما تطيقها، تنهدت وجدان وبدلت ملابسها لشيء مريح وفتحت اللابتوب تشوف جدولها لأول يوم، ماتدري ليه اختارت علاج طبيعي وكان هالشيء فكرة نعيمة قالت له مستقبل مُبهر، ضبطت جدولها وملابسها لأول يوم دوام بكرا ثم طلعت للصالة تشوف جوري جالسة على قدام التلفزيون بعد ما تغدت لوحدها وما انتظرت وجدان اللي تأخرت لساعات طويلة، ألتفت جوري تشوف وجدان لابسة عبايتها بتطلع
عقدت حاجبها جوري: طالعة؟
هزت رأسها وجدان: عندي كم شغلة لازم أخلصها
أشرت لها جودي على الساعة: ترا بعد الساعة ٩ ونص يقفلون بوابة السكن وما تقدرين تدخلين، حاولي ترجعين بدري..
شكرتها وجدان وطلعت تطلب سيارة توصلها للمكان اللي تبي تروح له، وصلت عند المقهى ونزلت بهدوء وتقريباً هذي اول مرة تطلع من الدار لمكان بدون ما يكون معاها المشرفات او اي حد ينتبه لها.. مَدت نظرها لطاولة بعيدة وابتسمت لما شافت صاحبها يلوح لها: انا هنا
مشت له بكل سرور وصافحته: وجدان و ثامر خارج أسوار الدار
ابتسم ثامر: شنو شعورج؟
جلست وجدان على الكرسي وسندت ظهرها للخلف تناظر المقهى من حولها وتمد نظرها من النافذة للخارج تشوف حركة السيارات والحياة الصاخبة: شعوري الضياع، كل شيء غريب يا ثامر مر مستوعبة أننا... ابتدينا من جديد، وقدامي مشوار طويل أتأقلم فيه مرة ثانية على حياتي الجديدة..
تنهد ثامر بخفة: كل شيء غريب صح، وفكرة اننا نتعود نعيش لوحدنا بدون حد فوق رأسنا يعلمنا صعبة لكن مو مستحيلة
ناظر عيونها وابتسم: يعني انا طلعت قبل بسنة، الحين أدرس طب وبنفس الوقت اشتغل بدوام جزئي وأحاول أستقر..
قاطعته وجدان بسخرية: وعلاقاتك؟ تقبلوك الناس؟
ارتخت ابتسامته و صَد بعيونه عنها ما يبي يكذب، بلع ريقه ورفع كوب القهوة يشربه بهدوء ولا زالت وجدان تنتظر جوابه، كان ثامر صديق دربها وأيامها لسنين طويلة في الدار، ولما قالها هو في يوم أنهم أخوة بالرضاعة عند نفس المرضعة حَست بوجود رابط قوي بينهم، يمكن مو رابط الدم لكن على الأقل شخص تقدر تستند عليه وتمشي معاه دربها الطويل..
ناظر عيونها وأبتسم: ما قالوا شي من قدامي، لكن من وراي يتكلمون! عموماً انا ما يهمني...
ابتسمت بسخرية: وليه تقولهم عن وضعك؟ غبي..
رفع حاجبه: ما يحتاج أقولهم يا وجدان، بمجرد ما يشوفون اسمي رباعي بشكل عشوائي "ثامر محمد..." وبدون اسم عائلة، مباشرة راح يعرفون أنني مجهول الأبوين وطالع من الدار أواجه الدنيا بغرابتها وقسوتها..
مَدت يدها تمسك كفوفه: دنيا رديّه، لكنني باخذ حقي بأيديني
عقد حاجبه ثامر: حق شنو؟
ابتسمت وجدان بخفة: انتظر و شوفي..
'
-بعد مرور ٨ سنوات-
مرت السنوات الثمانية التالية على وجدان سريعة ومليانة أحداث، وجدان اللي طلعت من الدار تحمل غضب و سخط الدنيا كله في قلبها وكل شيء كانت تلمسه تحرقه، ماكانت سنوات دراستها عادية و هادية، كانت طوال هالسنين تشتغل وتنهب وتنصب وتعيش قصص وحكايا مختلفة، حققت حلمها او حلم نعيمة وصارت اخصائية علاج طبيعي متميزة، لكن خلف تميزها في وجه ثاني تخفيه عن الجميع الا ثامر..
ابتسمت لما طلعت من المستشفى بعد يوم دوامها المُتعب والطويل وشافت ثامر واقف عند سيارتها ينتظرها، لوح لها من بعيد يأشر على ساعته: تأخرتي خمس دقايق!
عقدت حاجبها: ما قلت لي انك تنتظرني، صاير شيء؟
هز رأسه بالنفي: لا بس قلت اعزمج اليوم على العشاء، شرايج؟
اتسعت ابتسامتها: ما أقول لا، بس يارب مطعم يسوى
ضحك بخفة وركب بالسيارة جنبها وهي تسوق، وصلوا المطعم وكان مطعم فخم وتعرف وجدان ان قيمة العشاء فيه غالية ممكن تكلف ثامر الكثير لكنها ما رَدت العزيمة..
طلبوا الأكل و جلست تاكل بحماس وتلذذ بكل لقمة تذوقها، صعب على اللي مثلهم يعيشون هذا المستوى من الرفاهية والبذخ في حين انهم يستثمرون أموالهم بشيء يضمن مستقبلهم..
تنهدت وجدان: شكلك راح تعاني من ضائقة مالية بعد هالعشاء، بس تراني ما غصبتك على شي
ابتسم و رفع عيونه عليها: فداج، نعيش العمر مرة..
ميلت رأسها تشوف لمعة عيونه لما يناظرها: ما ودك تغير رأيك بموضوع السفر؟ وظيفتك ممتازة ووضعك المادي عال العال..
قاطعها ثامر بهدوء: لكن وضعي الاجتماعي يطلب النجدة، وجدان انا ما عندي الا انتي، كل اللي كانوا معانا بالدار عاشوا حياتهم وأغلبهم يرفضون التواصل معاننا عشان يتخلصون من وصمة العار اللي ممكن نلحقهم فيها، والمجتمع الخارجي كلما شافونا حطوا بيننا وبينهم حدود!
ارتخت ملامحها: لكن عندك انا...
صَد بعيونه عنها: ما يكفيني، احتاج أبني حياة جديدة برا، حياة الناس يحبوني ويحترموني ويقدروني لأني ثامر...
ابتسمت بخيبة أمل ونزلت عيونها على الصحن قدامها تلعب بالشوكة بهدوء: تدري اني ماقدر اترك الديرة....
قاطعها بنفاذ صبر: لين متى يا وجدان؟ كم قلب أم حرقتيه؟ كم قلب أب غرزتي فيه السكاكين؟ ليه تنتقمين من الكل وتدخلين حياتهم باسماء مجهولة ومزيفة متظاهرة أنج بنتهم المفقودة بإعمار وسنوات وقصص مختلفة، تعلقينهم في الأمل فترة وجيزة وتقلبين حياتهم فوق تحت وتسرقينهم وتهربين؟
ابتسمت بسخرية: خلي قلوبهم تحترق مثل ما قلبي انا يحترق، لو قلوبهم على عيالهم كان ما فقدوهم ولا تخلوا عنهم...
تنهد ثامر: يكفي، نهاية هالنصب والاحتيال سجن تدرين ولا؟
ناظرته ثواني ثم ضحكت: تظن اني اهتم؟
عقد حاجبه: لكن أنا اهتم، وجدان مو كل مرة تسلم الجرة
أطلقت تنهيدة طويلة ومَدت نظرها للمدى البعيد، ابتسمت ابتسامة جانبية في حين لمعت عيونها بحزن: راح أحرق قلب كل أم و أب ملهوفين على ضناهم وينتظرونه، يمكن من ضمنهم يكونون أهلي! او يمكن اهلي رموني ولا اهتموا وعاشوا حياتهم، لكن أبي هالكون كله يعاني جزء من غضبي وسخطي..
كان يناظرها بسكون و هدوء، كل مرة يقول ماراح يطاوعها باللي في رأسها لكنه يلقى نفسه يساعدها ويحميها، و لآخر رمق راح يحاول يمنعها ويبعدها عن هالطريق..
نطقت بهدوء لما شافت صمته طال: أبيك تساعدني
هز رأسه بالنفي: مستحيل وجدان، انسي!!!
عقدت حاجبها: هالمرة صج احتاج مساعدتك لأن المفقودين توأم و أظن وجودنا..
قاطعها بحدة و حزم: ماراح اساعدج يكفي...
رمى رفضه في وجهها بشكل حازم و ترك الطاولة وطلع من المطعم بعد ما حاسب على العشاء، ألتفت وجدان تشوفه يرمى كل شيء خلف ظهره ويختار الرحيل وهو مُنهك من سنين خذلته وأخذت منه طفولته وبراءته وشبابه، سنين غدارة ما عطته غير الألم و الجوّر على ذنب ما اقترفه..
تجمعت الدموع في عينها وهمست بخفوت لنفسها: الله معاك..
صَدت ورجعت تكمل أكلها بكل برود ولا كأن اللي تركها و راح هو الشخص الوحيد اللي بقى لها في هالدنيا، هذا طبعها عنيدة وما تغير أهدافها على شان احد.. رجعت لِـ شقتها اللي كانت تعتبر فارهة وبمنطقة راقية جداً، لكنها اشترتها من تعب سنينها واحتيالها على الناس، صار عندها وظيفة بمكان مرموق و شقة كبيرة وأموال لا بأس بها في حسابها البنكي لكنها ما اكتفت، مو هذا مستوى الحياة اللي تطمح له، تبي توصل لنقطة من الثراء في حياتها الكل بدون استثناء ينحنون لها ويمجدونها، تبي تنتزع الاحترام اللي ما قدروا يكنونه لها كَـ وجدان بنت الميتم، يكنونه لها غَصب وهي وجدان طويلة العمر صاحبة المال و الجاه..
تمددت على الكرسي في بلكونة شقتها وجلست تتأمل البحر وفي بالها موال لازم تغنيه حتى لو تخلى عنها ثامر..
'
وقفت سيارتها قدام البيت اللي تواصلت مع أصحابه على اساس انها حفيدتهم المفقودة من ٢٠ سنة، تشوف البيت كبير بمساحة شاسعة أسواره عالية وتصميمه يشبه البيوت القديمة لكن على شكل ٣ فلل متجمعة في فناء كبير ويتوسطهم مجلس، من التصميم الخارجي قادرة تفهم نوع الحياة بين هالاسوار، عائلة ملتزمة ومتحفظين رغم الرخاء المادي اللي يعيشونه.. نزلت من سيارتها ومشت أول خطواتها في الفناء الكبير وتَمد النظر تشوف جلسات خارجية و مَشب و بيت شَعر وفي الباركنغ سيارات حديثة متنوعة، ابتسمت وهمست بسخرية "نظامهم قديمك نديمك لو جديدك أعماك.."
لانت ملامحها وتصنعت البراءة لما شافت أمرأة في الخمسينات من عمرها وقفت عند المدخل تستقبلها، نزلت عيونها وجدان على الأرض تتصنع التوتر والارتباك وهي حاسبة حساب كل شيء حتى عدد أنفاسهم تعرفه..
مَدت يدها تصافح وجدان: أنا أم جابر
ابتسمت وجدان بخفة ومدت يدها: وانا... جوري!
ابتسمت ام جابر: حياج، ينتظرونج داخل..
تصنعت التوتر وأطلقت تنهيدة مُثقلة وراحت تمشي خَلف أم جابر، لفت انتباهها المدخل الواسع وكل شيء ينبض بالفخامة والأصالة والبساطة في نفس الوقت، بسيط لكنه ثمين وغالي..
مَدت نظرها لما دخلت للمجلس تشوف شايب كَهل يتكئ على عكازه، بجانبه رجال اثنين تتراوح أعمارهم بين الخمسين والستين، وامرأة وحدة بنفس عمر أم جابر تقريباً وقدرت تخمن انها ضحيتها الجديدة من تورم عيونها وبكاها، كلهم واضح عليهم الحشمة والالتزام وقدرت تخمن كل واحد وزوجته توقف جنبه، والأهم قدرت تميّز ابو الهيثم، اللي بتلعب دور بنته الضايعة ومفروض انها ضاعت من ٢٠ سنة يعني كانت بعمر يسمح لها تتذكر أشكالهم، وبسرعة تحجرت الدموع في عينها و ناظرت الأب و الأم تتصنع التأثر وأنها حَست فيهم
نطق الجد: اقربي يا بنتي...
ناظرت أم جابر اللي مفروض تكون زوجة عمها، ثم تقدمت تعرف نفسها لَـ الجد الكبير "هيثم آل فارس.."
تنحنحت بخفة: انا جوري...
قاطعها الجَد: انتي سارة، بنت ولدي حمد أبو الهيثم...
انتفضت وجدان ورفعت عيونها تناظره لما مَد يده على كتفها ويبتسم لها بِحنية: انا واثق انج بنت حمد، ما يحتاج تحليل..
نَطق حمد أبو الهيثم بحدة: وعلى أي أساس أنت واثق يبه؟ مو يمكن تكذب...
تصنعت وجدان الصدمة وألتفت تناظر حمد ابو هيثم اللي مفروض انها تلعب دور بنته ذات الـ ٢٤ عام اللي فقدوها من ٢٠ سنة ومالها أثر ما يعرفون حيّة او ميتة وتعاني من فقدان الذاكرة بسبب حادث تعرضت له قبل تدخل دار الأيتام، بالحقيقة وجدان زيّفت هذا كله وأخذت اسم جوري زميلتها بالسكن الجامعي وبعض المعلومات ودمجتها في سستم الميتم لما بحثوا وتواصلوا مع الميتم سوت حركتها المُعتادة واستخدمت مصادرها وجواسيسها يأكدون معلوماتها المزيفة، و ثامر بالعادة يساعدها في آنه يدخل سستم الدار يهكره ويدخل معلوماتها المُزيفة، وقبل هذا كله لعبتها صَح وعرفت تخليهم هم يبحثون عنها لما طلعت في يوم بحياة الجَد هيثم ولأنها شافت صور سارة بنت حمد بن هيثم آل فارس اللي انتشرت بكل الجرايد يبحثون عنها من ٢٠ سنة وما لها أثر، صار عندها فكرة عن شكل المفقودة سارة وملامحها والوحمة اللي موجودة في كفها اليسار، صنعت وحمة وهمية، وتهيأت في هيئة سارة الكبيرة، ولعبت على الوتر الحساس قدام الجَد..
ومن قسوة كلام ابو الهيثم غورقت الدموع في عينها وسكتت بهدوء تحاول تنسحب وتمثل قدامهم الزَعل لكن قبضة الجَد كانت أقوى، رفع صوته الجَد بحدة و أردف: مو على كيفك يا حمد، ما تشوف انها نسخة سارة!!
نَطق أم الهيثم: صحيح تشبهها، لكن التحليل واجب انا مابي قلبي ينكسر للمرة المليون ويخيب ظَني..
ناظرتها وجدان بطرف عينها، وأخيراً قررت تنطق بصوت واضح للجميع تكمل فيه تمثيلية البنت البريئة: الوضع مُربك وصعب بالنسبة لي انا بعد، وانا مابي ينكسر قلبي او انصدم بعد هالعمر كله، التحليل من حقي و حقكم...
مسك كفوفها الجَد هيثم: يا بنتي...
ابتسمت وجدان بخفة وعيونها تغورق: اشوفكم على خير...
ذرفت دمعة مصطنعة و صَدت عنهم تطلع، و تسمع خلفها صوت مناوشات و نوع من الصراخ والغضب اللي اعترى المكان، لكن ماعندها نيّة تطلع من هالقصة بدون فايدة، هي اللي تعرف هيثم آل فارس وتعرف ما يملك من ثروة و مال و جاه حتى لو لبس هو و نسله ثوب التواضع، شيخ بين ربعه وجماعته وكلمته ما تنزل الأرض.. وجودها بينهم ماراح يكون سهل لكنهم وجبة دسمة بالنسبة لها، تخلص شغلها وتمشي..
ناظرت شاشة جوالها تشوف مافي اتصال ولا رسالة من ثامر، ماتوقعت انه يسافر بدون ما يودعها ولا يكلمها حتى، ولا ظنّت في يومه إنه راح يتعب من لعبة الانتقام ويتركها بنص الطريق...

*
*
نهاية البارت الأول 🙏🏻

غريب الدار مُناي التسليحيث تعيش القصص. اكتشف الآن