3

502 48 21
                                    

تلون وجه وجدان بعدة ألوان و حَست بدوار، في نفس الوقت اللي دخل الهيثم للصالة ويشوفهم كلهم مجتمعين وألتقت عيونه بعيون وجدان الحايرة في ظِل هذا كله، لمس الريبة والربكة في رجفة عيونها وناظر عمته نعيمة اللي تتأمل وجدان بحاجب مرفوع وعلى وشك أنها تتكلم وتنطق أول حروفها...
أردفت نعيمة وعلى وجهها ابتسامة: اكيد أعرفها جوري، من بناتي في الميتم...
وجدان اللي كانت شادة على أعصابها بخوف ارتخى حيلها لما ابتسمت لها نعيمة و شدت على كفوفها، قربت تاخذها بحضنها وتهمس لها بصوت خافت: صرتي جوري!!
ابتسمت وجدان بتصنع: الدنيا صغيرة...
ابتعدت عنها نعيمة وراحت تسلم على حريم أخوانها أم الهيثم و أم جابر، وجدان اللي حست ببرودة تسري فق أطرافها مو فاهمة كيف ما درت ان نعيمة بنت بو حمد؟ شلون غابت هالتفصيلة عن بالها، والأهم ليه نعيمة كملت الكذبة معاها، انسحبت بهدوء من الصالة واستوقفها صوت نعيمة بنبرة فيها نوع من الاستفزاز: على وين يا سارة؟
ناظرتها وجدان: نسيت جوالي في الغرفة...
استدارت وطلعت من فيلا بوحمد ويدها على قلبها وقفت في الحوش بعيد عن البيت، تدور للجوال حصلته في مخباها طلعته و يدها ترجف تتصل على رقم وحيد تحفظه حتى لو ما خزنته في جوالها "ثامر" وصلها الرَد منه: هلا وجدان..
أردفت بسرعة: لو تدري شصار!!!
ثامر اللي كان نايم صحى واستعدل: عسى ما شر؟
نطقت بصوت خافت: المديرة نعيمة، بنتهم...
وقف على حيله ثامر بصدمة: شنووو؟؟؟؟؟
"تكلمين منو؟" كان سؤال بسيط من الهيثم خلاها تفز من مكانها بفجعة وتقفل الخط بوجه ثامر، ألتفت تشوفه متكتف خلفها يناظرها بنفس السخرية اللي اعتادتها منه
عقدت حاجبها بغضب: أنت شعندك تلاحقني؟ الموضوع زاد عن حده يا هيثم..
عقد حاجبه: الاحقج؟ يمكن لأن وجودج مُثير للريبة، اشوف حالج اعتفس لما شفتي عمتي نعيمة!
ضحكت بسخرية وأشرت على عقلها بالجنون: انت الله يعينك على نفسك، تعالج من الشكوك هذي و ريّح العالم من شرك
كرر سؤاله: بس ما جاوبتي على سؤالي؟
ضحكت بسخرية: دور على الجواب بنفسك!
قربت تنوي تتخطاه لكنه أعترض طريقها يوقف قدامها يمنعها تتحرك ورجعت هي خطوة للخلف أردف بإبتسامة خفيفة يتحدى فيها كل ذرة دهاء في وجدان: أعرف انج مو سارة
ناظرته بطرف عينها: وليه متأكدة لهالدرجة اني مو اختك؟ تعرف شي محد يعرفه غيرك؟
استمر يبتسم يستفزها، غمضت عيونها بنفاذ صَبر: ماعندك شي لأنك تدري انك شكاك على الفاضي وكل كلامك هذا ما يغير حقيقة إني اختك سارة والتحاليل كلها أثبتت هالشي، رأيك و تفكيرك كله على بعضه ما يهمني...
تقدمت تدق كتفها بكتفه وتبعده عن طريقها بكل هدوء، ألتفت يشوفها ترجع تدخل صالة بيت بوحمد و تنهد، في شي بهالبنت مو مريح من نظراتها لابتساماتها المزيفة والمشاعر اللي تتصنعها، الهيثم يشوف وجه محد يشوفه، وجه خبيث..
تجاهل العزيمة والجَمعة بكبرها وراح لغرفته ياخذ شاور ويبدل ملابسه و تمدد على السرير يحاول ينام، لكن كل شيء حوله يذكره في محبوبته وأيام الهنا والسعادة..
غمض عيونه لما بدأ يسمع صوت ضحكتها في ارجاء الغرفة، بعض الأحيان يشك بقدراته العقلية في هذي الظروف، ابتسم بخفة لما تذكر كيف كانت تنومه بحضنها بعد يوم طويل ومُتعب بين التدريبات والشغل.. كان لما يشوفها ينسى كل تعب وكل قَهر كان يعانيه بالخارج وتقعد هي تتكلم له عن أحداث يومها بالجامعة و تتشكى من الدكاترة و الطالبات، كان يستمع لأبسط تفاصيلها بكل حُب ويختم حديثها في قُبلاته العذبة، محبوبته مُنى، اللي من بعد رحيلها فارقت الضحكة مُحياه وأمست حياته مظلمة من ذيك الليلة ما أشرقت شمسه.. بدون شعور تمردت دمعة دافية تحرق وجنتيه في ظِل ابتسامته الدافية وهو يتذكرها، فَقدها للأبد وفقد نفسه معاها..
'
في صالة بيت بوحمد، الرجال بعد العشاء طلعوا للمجلس وبقوا البنات في الصالة، وجدان جالسة بينهم تحاول تحتفظ بهدوئها على الرغم من نظرات نعيمة لها..
تساءلت نوف: شفيه الهيثم وجهه مقلوب مو على بعض؟ حتى ما حضر العشاء جدي اكيد راح يعصب
رفعت أكتافها هند بعدم معرفة: مادري شفيه نفسيته شينة هالفترة مانشوفه الا وهو داخل وهو طالع!
ضحكت هنوف بسخرية: ما تعودتوا؟ هذا حال الهيثم من سنين ماله كبير ولا والي، ونفسيته خايسة بعد...
قاطعتها حصه: لا مو هذا حاله، وكلنا نعرف انه ما دخل بهالحالة الا من بعد وفاة مُنى الله يرحمها، ومعذور ما ألومه
وجدان اللي كانت تستمتع لهم بهدوء لفتها أسم مُنى، رفعت عيونها على حصه تسألها: منو هذي مُنى؟
ألتفت عليها حصه وعلى وجهها تعابير الحزن: زوجته الله يرحمها
عقدت حاجبها: الله يرحمها، شلون توفت؟
تنهدت هند تجاوب على السؤال بدال حصه اللي خنقتها العبرة وسكتت: هو تزوجها عن حُب تصير بنت خالتي، تزوجوا بعمر صغير على فكرة لما كان هو ٢٢ وهي ٢٠، حياة طبيعية زواج سعيد، هي تدرس وهو يشتغل لين في يوم تعرضوا لحادث و توفت الله يرحمها، واللي يوجع أكثر انها كانت حامل وقتها...
ارتخت ملامح وجدان تمثل الزعل: الله يرحمها...
كملت نوف: والهيثم مُخلص ووفي لها، الموضوع صارله اكثر من ٦ سنوات ولا فَكر يشوف حياته ويتزوج، رغم ان عمره صَك الواحد والثلاثين سنة لكن عينه ما ناظرت بنت ثانية من بعد مُنى الله يرحمها ويغفر لها...
وجدان اللي بشكل غير مباشر كانت تناظر هنوف تشوف حسرتها ولمعة القهر بعيونها واضحة، ماتعرف كواليس الحكاية لكن الواضح ان هنوف تعشق الهيثم و صَده عنها وتفضيله لبنت ثانية غيرها يجرحها، ممكن تلقاه تفسير انها قربت للثلاثين سنة وللحين ما تزوجت..
حَبت هند تغير الموضوع بضحكة: شكل مو بس الهيثم إضرب عن الزواج، كل شباب العيلة معاه شسالفة
ضحكت نوف: و رئيس مؤسسة العزابية عمي حَمني بيصك الأربعين وللحين باقي يحسب نفسه مراهق
قرصتها هنوف: عيب تراه عمنا بالنهاية
مسكت نوف ذراعها بألم: مافيه غريب كلنا نعرفه، و سارة مننا و فينا خلاص لازم ننشر غسيلنا قدامها...
قاطعتهم نعيمة اللي أقبلت عليهم من قسم الحريم وابتسمت لما رفعت وجدان عيونها عليها وقالت بنظرات تحذير: لا تنشرون غسيلنا من أول يوم، اتركوها لا تنصدم و تنحاش..
قالتها بشكل ساخر ضحكوا البنات كلهم، لكن وجدان فهمت إنها تحذرها بنوع من التهديد، صَدت عنها وانتبهت لجوالها اللي كان يرن بشكل مستمر بوضعه الصامت بدون أسم لكنها حافظه هذا الرقم عن ظهر قلب، رقم ثامر.. تجاهلت الاتصالات وقفلت الجوال بكل هدوء ورجعت تناظر نعيمة ولا نزلت عيونها من عليها أبداً، في نهاية السهرة كل حد فيهم راح بيته، بَقت وجدان جالسة مع بو حمد و وعبدالرحمن اللي غلبهم النعاس ودخلوا دارهم ينامون، وقفت وجدان على حيلها تناظر نعيمة: عندج شي تبين تقولينه؟
مسكتها نعيمة من ذراعها وأخذتها يصعدون لغرفتها، ما تبي أحد يسمع حديثهم أو حوارهم اللي عبارة عن قنبلة موقوتة..
قفلت نعيمة الباب وناظرت وجدان: قلتي لي انتي سارة؟
ضحكت وجدان: شرايج بالمفاجئة؟ اعترفي انج اشتقتي لي
عقدت حاجبها نعيمة: شسالفتج يا وجدان؟ داخلة من باب كذبة كبيرة، أكبر منج و مننا كلنا، على شنو ناوية؟
رفعت حاجبها وجدان وجلست على الكنبة تناظر نعيمة اللي واقفة على حيلها ومتكتفة: ناوية على كل خير، خير لي طبعاً اما بالنسبة لكم ما يهمني، باخذ اللي أبيه وأطلع
هزت رأسها نعيمة بعدم تصديق: هذي اخرة التربية يا وجدان؟ تصيرين نصابة؟ و عشان شنو؟ الفلوس؟ قولي كم تبين...
أطلقت وجدان ضحكة طويلة: تربية؟ ترببة شنو؟ شكلج ناسية اني تربيت في الميتم، ما قصرتوا انتوا معانا صحيح لكن هذي سيكولوجية اطفال الدار كلنا بداخلنا نقص مُعين نحاول نكمله بعد ما نطلع، والنقص اللي بداخلي ما يكتمل الا بتعاسة الأهل، تبين الصج؟ عيلتكم مو اول عيلة انصب عليها، وماراح تكونون اخر عيلة بعد لكن.. عشان العشرة اللي بيننا انا وياج، بحاول أخفف الآثار الجانبية تطمني..
وقفت وجدان تبي تطلع، مسكتها نعيمة بغضب: وعلى أي اساس واثقة اني بسمح لج تكملين خطتج يا وجدان؟
نفضت وجدان ذراعها تبعد نعيمة عنها: نفس السبب اللي خلاج تسكتين وتعدين الليلة على خير و تتسترين علي، بيخليج تسكتين عمر كامل بدون ما تنطقين حرف!
تلون وجه نعيمة بإرتباك، ابتسمت وجدان: وانا راح أعرف السبب هذا و أذلج فيه، حاولي تبعدين عن طريقي وتحتضنيني كأني سارة بنت اخوج...
قربت تبوس خد نعيمة بخفة وتبتسم: وحشتيني يا عمتي الحنونة!
دفعت كتف نعيمة بكتفها وطلعت من الغرفة تركتها واقفة خلفها بذهول، فطينة و داهية وقدرت تقرأ الموقف وتفهم ان ورا نعيمة سالفة، والظاهر انها سالفة كبيرة لدرجة انها اخرستها وما نطقت ولا حَرف، رغم هذا كان قلبها يرتجف بخوف من إن نعيمة تنطق بشيء وتخرب خطتها وتطيح بمليون مصيبة، مصيرها السجني لا مُحال هي اللي طاحت في عيلة كل أبوهم يشتغلون في السلك العسكري بمجالاته المختلفة ولهم مناصب كبيرة، الموضوع كان سهل بدون وجود نعيمة..
فَزت لما وصلها اتصال ثامر للمرة المليون في هذي الليلة، كانت في الحوش الكبير تناظر حولها مافيه أحد، رَدت على الاتصال بصوت خافت: هلا ثامر
تنهد براحة: وينج اتصل من ساعات ما تردين؟ فجرتي القنبلة وتركتيني حاير ماعرف شسوي، نعيمة ما غيرها مديرة الميتم؟
ألتفت وجدان تشوف نعيمة تناظرها من دريشة غرفتها في بيت بو حمد تراقبها بَحذر: اي ماما نعيمة ماغيرها...
قاطعها: اطلعي برا انا انتظرج من ساعات
شهقت وجدان بصدمة: ثامر شنو اللي تنتظرني برا؟ ترا مو على كيفي أطلع بهالوقت يشكون فيني...
قاطعها بحزم: وجدان اطلعي ولا انا اللي بدخل هالمرة، انتظرج!
هزت رأسها بالنفي: تكفى مالي خلق بروح ولدهم هذا شاك فيني وواقف عظم بالبلعوم مع وجود نعيمة ماقدر اتصرف براحتي، انا بخير وكل شيء تمام تطمن يا ثامر
سكت ثامر ثواني ثم أردف بهدوء: دامنا على البَر تراجعي يا وجدان، بداخلي أحساس غريب هالمرة مو مثل كل مرة..
ما سمع جوابها: ارجعي يا وجدان تكفين نعيمة ماراح تعديها على خير، لو انكشفتي الحين كل احتيالج السابق راح يظهر و يبان على السطح، ماراح تعدي سليمة صدقيني، بديت أندم اني ساعدتج بموضوع التحليل ياليتني ما سويته!
قاطعته: بديت بهالطريق و راح أكمله، توكل يا ثامر ولا اشوفك هنا مرة ثانية، لا تتصل فيني انا لما افضى أكلمك....
قفلت الخط في وجهه بغضب، تركت ثامر واقف على بابهم ساعات طويلة بدون رَد منها، كان وده بس يشوفها على الأقل ويتطمن لكنها رفضت رفض قطعي انها تطل عليه ولو ثواني، قلبه الملهوف والخايف عليها ينعصر، ما يدري كيف طاوعها بهالطريق وهالمرة تحديداً بداخله احساس غريب، ووجود نعيمة أكد احاسيسه، نعيمة مو مجرد إضافة عابرة في قصة وجدان، نعيمة محورها ومركزها، نعيمة الفنانة اللي بدعت في رسم لوحة مليئة بالتناقض بين فَرح و حزن، أمل و تشاؤم، غضب و حلم، ملاك وشيطان، لوحة سمتها وجدان قبل ٢٦ سنة لما دخلت الميتم في أول يوم كَمديرة واستقبلت اول حالة طفلة مجهولة الأبوين رضيعة عمرها ما يتعدى ساعات او بالكثير يومين، أطلقت عليها نعيمة أسم وجدان لأن الطريقة اللي انرمت فيها وجدان بداخل الدار خالية من أي ضمير انساني او وجداني، طريقة بشعة وبائسة لطفلة آية في الجمال ما شافت من الدنيا شيء غير القسوة والألم...
'
صحى على صوت أذان الفجر ورأسه بينفجر من الصداع، نام ساعات طويلة من بعد اذان العشاء لكن جسمه بالكامل متكسر ورأسه ثقيل، هذا تأثير طيوف مُنى عليه، في كل ليلة يذكرها ويذكر الحادث وفراقهم الأبدي يتعب ويعيش نفس ذيك المشاعر، مشاعر ليلة فقدانه لها، أصعب و أطول ليلة عاشها في حياته، كان متماسك بصعوبة طول أيام العزاء، مَرت السنوات والشعور يثقل كاهله يوم بعد يوم، شعور الحزن والعجز والندم وتأنيب الضمير، لو ما أسرع في ذيك الليلة كان مُناه جنبه الحين مع أطفالهم وحياته سعيدة ومستقرة...
***
الحب مثل النوم والوصل الأحلام
والشيين من الأحلام فراق المُحبين
نومٍ طويل عمره شهـور وأعوام
وأن قمت ففهمها فراق وسهر عين
نومٍ ثقيل كله أحلام و أوهـام
ونصيبي من أحلامه الجانب الشين
***
بعد ما توضى طلع يمشي للمسجد القريب من بيتهم، سَبق جده وأبوه وعمانّه ورجالهم كلهم، جَلس في المسجد يقرأ ورده اليومي قبل الإقامة، لفت انتباهه شَخص نايم في زاوية المجلس، كان يبدو مألوف بشكل غريب، بعد ثواني من التدقيق أدرك أنه نفسه الدكتور اللي عطاهم نتيجة التحليل، الدكتور ثامر، تَركه الهيثم يكمل نومته وقبل الإقامة بدقايق راح عنده ينغزه بهدوء: يا دكتور
فتح عيونه ثامر بهدوء و فَز لما شاف الهيثم فوق رأسه، وقف ثامر يحك جبينه: خلصت الصلاة؟
هز الهيثم رأسه بالنفي مع ابتسامة خفيفة: باقي على الإقامة دقايق، قوم جَدد وضوئك الظاهر إنك غفيت..
ابتسم له ثامر و أبتعد بخطواته يجدد وضوئه، بالوقت اللي بدأت تمتلي صفوف المسجد ومن ضمنهم كل رجال عيلة آل فارس يتوسطهم بوحمد وهو يتكئ على عكازه، ابتسم ثامر ابتسامة جانبية لما شافهم مجتمعين، توقع ان عيلة محافظة وملتزمين مثلهم كلهم راح يصلون الصلاة في المسجد هذا السبب اللي خلاه يجلس في المسجد ينتظر وقت الصلاة ويتظاهر بالنومة، لقاء صَدفة مع الطبيب اللي ساعدهم انهم يجتمعون مع بنتهم بعد سنين ماراح يمر مرور العابرين، راح يتعرفون عليه ويتقرب منهم أكثر بهالشكل يقدر يكون قريب من وجدان ويحميها، حتى لو تظاهر بعدم معرفتها لفترة طويلة.. استقام مع صفوف المُصلين لما ابتدأت الصلاة، خلفهم بالضبط، وبعد انتهاء الصلاة ألتفت الهيثم يناظره..
وابتسم ابتسامة ماقدر ثامر يفسرها، أشر له يقرب لهم وبالفعل تقدم ثامر بخطواته لهم و أردف: تآمر على شيء؟
ناظروه جميع لما نطق الهيثم: لا ابد سلامتك، بس انت الدكتور ثامر محمد صح؟
هز رأسه ثامر بخفة: اي، وأعرف حضرتك طبعاً مو غريبين علي
ابتسم الجَد بو حمد: يا محاسن الصدف، أنت ساكن هنا؟ اول مرة اشوفك في هذا المسجد تصلي..
هز ثامر رأسه بالنفي: لا والله بس كنت سهران في بيت واحد من الربع وقلت أصلي دامني قريب، لكن اخذني النوم و غفيت..
كان الهيثم يستمع لحروف ثامر بإنصات شديد، ثم تقدم يمد يده على كتف ثامر: حياك اقلط عندنا، انت فضلك علينا كبير لولا الله ثم أنت ما كان عرفنا ان اختي عايشة...
عقد حاجبه ثامر باستغراب: لا يا جماعة انا ما سويت شي وبالصدفة كنت الطبيب المناوب يومها يعني كلها تقديرات إلهية، والحمدلله على سلامة بنتكم قرت عيونكم..
أصر ابو الهيثم: والله انك تقلط وتذوق قهوتنا، الفطور ماهو مقامك لكن اليوم عشاك عندنا، نتشرف فيك وبمعرفتك..
ابتسم ثامر بخفة وأضطر يقبل العزيمة بعد إصرارهم من الكبير للصغير، ناظر هيثم يشوفه مبتسم بهدوء و نغزه قلبه، ودعهم وطلع من المسجد يحرك سيارته تحت انظارهم جميع
ابتسم عبدالرحمن: والله شكله خوش ولد، محافظ على الصلاة بالمسجد نسخة نادر تحصلها هالايام..
مشوا و هم يمدحونه و الهيثم يتأخر عنهم ببضع خطوات، ألتفت يشوف أثر سيارة ثامر وابتسم: أنت بتكون المفتاح، مَنت خالي يا ثامر لا والله مَنت خالي!
كمل طريقه معاهم يمشون لين وصلوا البيت، كان ناوي يروح لغرفته ويبدل ملابسه لكن استوقفه عبدالرحمن لما سحبه من ذراعه بقوة و همس له: أنتظر لا تروح
ناظروا اثنينهم ابتعاد بو حمد ودخوله للمجلس، راحوا يتمشون في الحوش و الهيثم قلبه ناغزه: حمني قول أخلص شعندك؟
ناظره عبدالرحمن بقلق وارتباك: مادري شقولك لكن انا تزوجت
توسعت عيون الهيثم بصدمة وذهول: شنو؟!!!
نزل عيونه عبدالرحمن: اي والله من ست شهور تزوجت....
قاطعه الهيثم: لا بارك الله فيك! هذي سواة؟ شلون تتزوج بدون محد يدري، و جدي صارله سنين ينتظرك....
سكت الهيثم بتفكير ثم أردف: لا يكون، أجنبية!!!!
غمض عيونه عبدالرحمن يأكد تساؤله، صَد الهيثم عنه بغضب شديد ثم رجع يضرب صدره: أنت غبي؟ صح انك عمي و أكبر مني لك والله انك غبي اسمح لي، مجنون؟ تدري ان جدي مستحيل يرضا بهالشي، خصوصاً انه يعيق حياتك المهنية وترقيتك وكثير أمور ما تناسبك ولا تناسبنا!!!!
قاطعه عبدالرحمن: أحبها، مو يوم ولا يومين سنين! و أبوي ما رضا يخطبها لي، انتظرته يوافق سنين لكنه رافض... وانا رجال بصك الأربعين أعرف شنو أبي، و قلبي ما يبي غيرها!!
رفع حاجبه الهيثم: هي نفسها؟ رغد؟
ابتسم عبدالرحمن من طاريها: اي، من غيرها يا هيثم؟ ليه انا عيوني تشوف غيرها انسانة بهالكون؟ حُب ٧ سنين مو هيّن...
تنهد الهيثم: الديرة مليانة بنات يا عبدالرحمن، طَب و تخير ماهو عذر انك تحبها و تغضب جَدي و أهلك كلهم!!
عقد حاجبه عبدالرحمن: وانا ما قلت لك الدنيا مليانة بنات من بعد وفاة مُنى الله يرحمها طَب و تخير! ما قلت لأني أعرف الحُب الحقيقي ما ينتسى.....
تغيرت ملامح الهيثم من طاري مُنى: شدخل مُنى الحين؟ ولا تخلط المواضيع وضعي غير عن وضعك!!!!
ابتسم عبدالرحمن: لا ما هو غير، الحُب مهما إختلفت أشكاله يبقى حُب وشعور سامي ما نختلف عليه! وانا تزوجت رغد من ورا أبوي لأنه أجبرني على هالطريق
سكت الهيثم يشوف عبدالرحمن يحاول يبرر، لكن هو بداخله يعرف ان جده مستحيل يقبل بهالزواج مهما صار
تساءل الهيثم: و أهلها شلون قبلوا فيك! حلفوا ما يزوجونك إياها الا لو حد من أهلك حضر!!
ناظره عبدالرحمن بإبتسامة: نعيمة و ابو جابر حضروا، اهلها كانت موافقتهم علي صعبة بعد والله سنين وانا احاول لكن الحمدلله تمت الأمور بخير وسلامة...
ناظره الهيثم: و تتزوج بدون ما تقول لي يا عبدالرحمن؟ وعلى أساس انا اقرب واحد لك ولا ادري انك تزوجت الا بعد شهور
ناظره عبدالرحمن بإنكسار: مَنت رايق يا هيثم، طول الشهور الماضية هلكت نفسك بالدوام وبعدها سفرتك، وانا ادري انك ما تحب الكذب وما بغيت أحملك كذبة تضطر تخفيها عن أبوي وما تقدر تحط عينك بعينه!
كمل عبدالرحمن: لكن الحين انا مضطر أواجه أبوي، رَغد حامل ومستحيل أرضا على ولدي يعيش بالخفاء بدون ما يعرف أهله و ناسه و عزوته... ابي منك تساعدني
ناظره الهيثم بهدوء: اساعدك؟ تسوي المصيبة وتبي مساعدتي!
تنهد عبدالرحمن بنفاذ صبر: افهمني، محد يقدر يقنع ابوي ولو بنسبة بسيطة غيرك، انا بعترف له بس أبيك تعاوني! نعيمة و ابو جابر انسحبوا من الموضوع، مالي غيرك تكفى!!
ضحك الهيثم: بالله! هذا مو وقتك أجل الموضوع شوي، تدري ان البيت كله قايم قاعد بعد وصول هذي اللي اسمها جوري
صَحح له عبدالرحمن: تقصد اختك سارة، مو جوري..
تجاهله الهيثم و راح يمشي متوجه لِبيتهم، دخل والهدوء يعم في الارجاء كلها وما يسمع الا صوت الخدم في المطبخ يجهزون الريوق، وريحة الكرك مع الزعفران والقهوة العربية تفوح في كل زوايا البيت مع صوت القرآن الخافت اللي يتخلله تغاريد العصافير المنبعثة من دريشة الصالة الكبيرة واشراقة الشمس الدافية ونسمات الهواء تطير الستاير للداخل بشكل عشوائي، مَشهد حنون خلاه يوقف ثواني يتفكر بهذه النعم العظيمة.. قطع عليه حبل أفكاره صوت خطوات غريبة ما اعتادها، مو أمه ولا اي وحدة من خواته، ألتفت يشوف اخته الغريبة تنزل من على الدرج و تتوجه للمطبخ وهي لابسة جلال الصلاة شيء غريب انها تلبسه في البيت اللي مافيه الا هو وابوخ وأخوه يعني محارمها لكنه متوقع هالشيء، التقت عينها بعينه ثم تجاهلته و راحت للمطبخ تدور على شيء تاكله...
كانوا الخدم يناظرونها بإستغراب، لأن محد من أهل البيت ياكل قبل ما يجتمعون كلهم على سفرة وحدة، و وقفت هي تناظرهم بحاجب مرفوع: عسى ما شر؟
ما ردوا عليها، كملت أكلها لما تقدم الهيثم يناظرها بضحكة ساخرة من فوق لتحت: مستغربين، ما تعرفين النظام هنا لأنج غريبة بس ترا عندنا محد يقعد على السفرة او يباشر الأكل قبل شيبانا الله يطول بأعمارهم!
ناظرته بطرف عين لآنه شدد على كلمة "غريبة" وابتسمت له بنفس مستوى السخرية اللي يحاكيها فيه: المطلوب؟ خلاص بديت أكل الحين ووراي شغل لازم ألحقه مو فاضية لمراسم الطاعة، و أتوقع شيبانكم على قولتك راح يعذروني!
سَد نفسها عن الأكل وكانت ناوية تتعداه لكنه في سبابته بس ثبتها بمكانها وناظرها بحدة: عدلي لسانج لما تتكلمين عن شيباني، و إن ما لقيتي حد يربيج انا اللي اربيج!!
ناظرته باستخفاف: يا كثر سوالفك، وخر عن قدامي بس..
دفعته بقوة تبعده عنها وطلعت من المطبخ، صعدت للغرفة تبدل ملابسها وتطلع وهي كذابة ماعندها دوام ماخذة اجازة لمدة شهر لين تخلص أمورها مع هالعيلة، لكنها طَقت جبدها وناوية تطلع تشوف ثامر و تتفاهم معاه..
نزلت حَصلت الهيثم في بدلته الرسمية متوجه للسيارة الواضح ان عنده دوام، ألتفت عليها ورفع حاجبه يشوف عبايتها اللي تبرق وترعد: بهالشكل رايحة للدوام؟
ناظرته بطرف عينها: اي عندك مانع؟
رّص على أسنانه بغضب: لا انتي فعلاً يبي لج تربية، هالشكل ما تطلعين فيه من بيت هيثم آل فارس، تراج محسوبة علينا الحين، روحي بدلي عبايتج لا تخليني ابتلش فيج مع هالصبح..
ضحكت بخفة: بأحلامك، توكل الله يسهل دربك بس
مسكها من ذراعها بحدة: انتي للحين ما تعرفيني عدل وربي أضيق عليج كل يوم تعيشينه هنا، تسنعي يا جوري
حَست بغضب عارم من تعامله معاها، غمضت عيونها بنفاذ صَبر و أردفت بحدة: لا تسوي انك ولي امري و أنت مو معترف فيني كَـ أخت لك اصلاً، و اسمي سارة مو جوري...
ابتسم بخفة: جوري! مو لايق عليج الأسم اصلاً، ينفع تكونين حَنظل مسموم، اي شيء الا انج تكونين جوري..
ضحكت وجدان من قلبها: ما توقعت دمك خفيف!
وبثواني انقلبت ملامحها وسحبت ذراعها من قبضته: ولا تتعدا حدودك، عندك شيء قوله بس حركات إنك تتسلط علي و تظن اني بسكت لك؟ انسى، تراك أنت بعد ما تعرفني عدل
تخطته و نطق بصوت مسموع: لا تتأخرين الليلة عازمين الدكتور ثامر على العشاء، نقوم بواجبه ونكرمه...
حَست ان الأرض تدور فيها لما طرأ اسم ثامر عقدت حاجبها تتظاهر بعدم المعرفة: و منو هذا ثامر؟
رفع حاجبه: الدكتور اللي جمعنا فيج، نسيتيه؟
هزت رأسه بالنفي: ما اذكره، وبصراحة؟ ما يهمني...
ركبت سيارتها تحرك من قدامه، همس بخفوت: اهربي..
'
-المقهى-
وصلت تشوف ثامر جالس ينتظرها، راحت تمشي له بسرعة و رمت شنطتها على الطاولة بغضب: ليه ما قلت لي انهم عزموك؟ و متى و ليش و شلون!
ابتسم ثامر: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
قاطعته: مو وقته ثامر، شسالفة ممكن تفهمني؟
رَد بهدوء يستفزها: مافي سالفة ولا شيء، بعد ما نقعتيني ساعات قدام بيتهم بدون ما تردين علي قررت اصيدهم واتقرب منهم، صليت معاهم الفجر و عزموني بكل بساطة
جلست على الكرسي تسند ظهرها: أنت متقصد تنرفزني، ثامر وجودنا انا وياك بحياتهم راح يخليهم يشكون فيني أكثر مو ملاحظ؟ راح ينتبهون قبل ما يمديني أخذ نصيبي منهم!!!
ناظرها بحدة: وانا ابي اكون قريب منج عشان احميج منهم..
تساءلت بنفاذ صبر: تحميني من منو؟ نعيمة موضوعها عندي
جاوبها باختصار: من نعيمة والهيثم، نظراته وابتسامته مليانة خُبث و مُكر يا وجدان ما يطمن واضح ناوي على نية
ضحكت وجدان: وأنت مصدق بيطلع منه شي؟ مسوي ذكي و مُحنك و أطنخ واحد في القوات الخاصة، ولا هو قادر يمسك علي ممسك! لا تخاف يا ثامر انا اوديهم البحر وارجعهم عطشانين، ما يطلع له معاي شي تطمن
هز رأسه بالنفي: ولو، بكون معاج وقريب منج احسن لنا كلنا
ناظرته وجدان بتعب: ليه تدخل نفسك ثامر، الهيثم راح ينبش من وراك أنت بعد....
قاطعها بضحكة: تراني سويت لنفسي قصة جديدة مثلج، مهما نبش ماراح يحصل الا ثامر بن محمد اللي اهله توفوا بصغره وتربى في بيت جده وعاش ضمن الطبقة المتوسطة كَشخص عادي، مالي سجل في الدار حالياً وسجلي الجنائي نظيف، لا تخافين هي فترة مؤقتة
عقدت حاجبها: فترة مؤقتة انا بعد اختفي كَـ جوري وما يلقون لي أثر، لكن انت طلعت لهم بأسمك وهويتك الحقيقية الدكتور ثامر ماراح يخلونك بحالك!
رفع حاجبه: انتظر هالكابوس ينتهي وبسافر بعدها على طول، أجلت سفرتي كم شهر عشانج بس لكنني ما تخليت عن الفكرة و اتمنى ان في نهاية هالكابوس نطلع انا وانتي من الديرة سوا
ارتخت ملامحها و صَدت عنه وقلبها ضاق: ليه تربط مصيرك فيني؟ انا قلتلك مستحيل اترك الديرة، روح أنت و عيش حياتك و انسى كل شيء صار بالماضي، والأهم انسى وحدة اسمها وجدان
تردد ثواني لكنه مَد يده يمسك كفوفها اللي فوق الطاولة، فَزت هي تناظر ابتسامته ولمعة عيونه ومنطوقه اللي يتحرك بعذوبة مالها مثيل، ينطق حروف يطمن مخاوفها: لو أنسى نفسي ما انسى وجدان، طفولتي ومراهقتي و شبابي كله مرتبط فيج..
كان على وشك البكاء هذا سبب جعلها تستغرب منه لكنها تأثرت نوعاً ما، احياناً ثامر يفيض عليها بالحُب والعاطفة فوق المعقول، يغمرها في عَطفه اللي ماعرفت في الدنيا غيره، تتساءل لو ما كان أخوها بالرضاعة شنو كان مصيرهم بعد ما طلعوا من الميتم، وترجع تذكر نفسها اكيد الفراق مصيرهم، ثم تحمد الله انها على الأقل حَصلت شخص واحد فالدنيا تستند عليه و كان ثامر عز السند والرفيق والصديق، ميلت رأسها بخفة تبتسم له تداري مشاعرها الجياشة: ما طلعت بهالدنيا ألا فيك، ما تتخيل فرحتي لما قلت لي انك أخوي بالرضاعة..
تلاشت ابتسامته بخفة، هي معاه لأنها صدقت كذبته وخدعته قبل سنين طويلة في طفولتهم انهم اخوان بالرضاعة، كَذب عليها قاصد ومتعمد يبي ما تحرمه من قربها...
لكنه تساءل: لو ما كنا أخوان بالرضاعة، كان تركتيني؟
شربت قهوتها ببرود: طبعاً، شلون أقعد معاك وأفتح لك قلبي ونكون بهالقرب لو مو أخوي؟ تدري اني ما اثق بالذكور كلهم
تغصب الابتسامة ونزل عيونه على فنجان القهوة و همس بصوت خافت لكنها تسمعه: الحمدلله اننا اخوان بالرضاعة
غَص قلبه ولو انه كان متوقع الجواب من سنين طويلة، لكن كان عنده امل ولو واحد بالمية انها تنظر له نظرة ثانية، تشوفه بعيون الحُب مثل ما هو يشوفها ومتولع فيها، يضيق صَدره كلما ذكر استحالة انها تبادله الشعور، وما يتخيل شعورها او ردة فعلها لو درت انه كذب عليها سنين، كل شي ضده و ضده حُبه الخَفي العميق، حُب ما راح يشوف النور أبداً..
من شَدة حُبه له كان يرفض كل عيلة تطلب احتضانه، يتذكر لما كانت وجدان الصغيرة توقف خارج مبنى الادارة بقلق كبير كلما دخل ثامر للمقابلة مع العائلات المحتضنة، يناظرها من دريشة مكتب المديرة نعيمة ويشوفها تجلس ساعات تنتظره، منظرها وهي وحيدة واقفة بكامل حيرتها كان يكسر قلبه الصغير ويضيق عليها، وفي كل مرة يسوي مشكلة ويرفض الاحتضان ويرجعون للدار..
لما يخرج ثامر كانت تركض بعيد وتسوي نفسها مو مهتمة فيه وتلعب بالحديقة مع باقي الأطفال، تناظره يقترب لها بطرف عينه وعلى ثغرها ابتسامة حزينة، يمسك ثامر كتفها وتلتفت له وتناظره بغضب: ما جهزت شنطتك؟
يهز رأسه بالنفي: ما يبوني، ما عجبتهم!!
تضحك وجدان من قلبها وتضرب كتفه: أحسن..
وتركض بعدها تكمل لعبها مع الاطفال بفرحة كبيرة، كان ثامر الأقرب لها وتخاف تخسره ويروح وما عاد تشوفه مثل الباقين، وفي كل مرة ثامر يتبع نفس الاسلوب لين كَبر وما عاد من المرشحين المفضلين للاحتضان، وفي كل مرة وجدان تطقطق عليه لكن بداخلها فرحة كبيرة ان ثامر يبقى معاها، لما وصل ١٨ سنة وطلع من الدار بدونها كان يعد الأيام والليالي عشان تطلع وجدان و تحرر من قيودها وتصير أقرب له، ماكان يفهم مشاعره ولا يعرف يفسرها لكنه ما يبي يفارقها أبداً...

غريب الدار مُناي التسليحيث تعيش القصص. اكتشف الآن