البداية

19 1 0
                                    

وُلدتُ في السابع من يوليو عام 1988، في تلك البقعة التي كانت فيها الشمس تلهب السماء بحرارتها كما تلهب الأرواح بالتحديات التي لا تنتهي. تلك الأرض الحدودية بين تركيا، العراق، وسوريا، لم تكن مجرد خطوط جغرافية على الخرائط، بل كانت حدودًا تفصل بين الأمل واليأس، بين الحياة والبقاء، بين الهروب والمواجهة.

أصلي يعود إلى الأكراد، ذلك الشعب الذي تعلم عبر القرون أن النجاة لا تكون بالهروب، بل بالتمسك بالأرض وبالهوية. في أزمنة الحروب الطائفية بين العثمانيين والأرمن، كانت عائلتي كغيرها من العائلات تسير في دروب النفي واللجوء، بحثًا عن السلام في عالم لا يعرف إلا الصراع. كان الإسلام الذي اعتنقته عائلتي في سوريا، رغم أنه كان تحولًا روحانيًا، إلا أنه لم يمحُ الندوب التي تركها الفقدان والغربة.

وُلدتُ في عائلة كانت تملك في يومٍ ما كل شيء، ولكن الأقدار لم تترك لنا سوى ذكرى ماضٍ كان مضيئًا. كان والدي، رغم انشغاله بالعمل في مجال النفط، يحمل في قلبه حلمًا كبيرًا لنا جميعًا، لكن القدر كتب له نهاية سريعة. تعرض والدي لتسمم في ليبيا، وكان ذلك المرض بمثابة بوابة أخرى إلى عذابات أشد، حيث تحول إلى سرطانٍ مزق جسده حتى فارق الحياة بعد ولادتي بعام.

مات والدي، ولكنه ترك وراءه حياة أكثر قسوة من الموت ذاته. ترك لنا إرثًا من الألم والفقد، وترك لأخي الأكبر مسؤولية أن يكون أبًا ونحن لا نزال نلتقط أنفاس الحياة الأولى. لم يبقَ لنا سوى كوخ صغير في قرية نائية، بالكاد تلامسها أصوات الحياة. هنا، بدأت رحلتي مع التحدي والصمود.

كبرتُ في عالمٍ تحكمه التقاليد، حيث كان الدين هو الموجه لكل تفاصيل الحياة. درست الفقه والتجويد وبلاغة القرآن في سن مبكرة. ولكنني، رغم تلك الحياة الروحية، كنت أبحث عن معنى أعمق، عن إجابات للأسئلة التي لم أكن أجرؤ على طرحها.

تعددت اللغات التي تعلمتها؛ الكردية في المنزل، والعربية في المدرسة، والتركية في الأحاديث العائلية. كل لغة كانت بوابة جديدة لفهم هذا العالم المعقد، وجعلتني أدرك أن الكلمات ليست مجرد أدوات للتعبير، بل هي وسيلة لفهم أعمق لنفس الإنسان وحقيقته.

رغم كل هذا، لم يكن التفوق الدراسي مجرد هدف، بل كان وسيلتي للهروب من واقع كان يثقل كاهلي. كانت الفلسفة والتاريخ، وهما أكثر ما أحببتهما، بمثابة مرآة أرى فيها نفسي وأسأل: من أنا؟ وأين هو مكاني في هذا العالم الذي يبدو أنه لا يتوقف عن القسوة؟

عندما أقنعني أخي بالانتقال إلى دمشق، كانت تلك الخطوة بمثابة الانتقال من عالم إلى عالم آخر. دمشق، تلك المدينة التي كانت تعدني بالحلم، كانت في الوقت ذاته تضعني أمام تحديات جديدة. عملت ودرست، ومررت بأوقات لم أكن أملك فيها حتى بطانية تقي جسدي من برد الشتاء القارص.

كانت الحرب هي الجواب الذي لم أكن أبحث عنه. قطعت الحرب أحلامي، وسدت أمامي الطرق، وألقت بي في عالم جديد من اللايقين. اضطررت للعمل في تركيا في شركة طبية، حيث تعلمت عن العظام والعضلات، وكأنني أتعلم عن الهياكل التي تشكل الإنسان، وكأنني أبحث في تلك العضلات عن القوة التي أحتاجها للاستمرار.

في عام 2016، كانت رحلتي إلى ألمانيا بداية جديدة. ولكن هل كانت البداية سهلة؟ بالطبع لا. كانت الغربة مرة أخرى تصفعني في وجهي، لكنني قررت ألا أهرب هذه المرة. التحقت ببرنامج تدريب مهني، وأصبحت شيفًا محترفًا، أتنقل بين المطابخ العالمية، وأتعلم من كل طبق قصة جديدة.

اللغات التي أتقنتها، الكردية والعربية والتركية والألمانية والإنجليزية، لم تكن مجرد كلمات، بل كانت جسورًا بيني وبين العالم. وبينما كنت أجد العزاء في عزف البيانو، كنت أكتشف أن الموسيقى هي اللغة الوحيدة التي لا تحتاج إلى ترجمة، لغة الروح.

الآن، وأنا أكتب هذه القصة، أدرك أن الحياة ليست مجرد أحداث تمر، بل هي دروس يتعلمها القلب والروح معًا. كتابي "أطراف مجهولة" ليس مجرد سرد لحياتي، بل هو تأمل عميق في معنى أن تكون إنسانًا، في هذا العالم الذي يبدو أنه لا يتوقف عن اختبارنا.

الأطراف المجهولةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن