البدايات

4 1 0
                                    

البدايات هي الأصعب دائمًا، كبداية الحياة في المخاض، وبداية الموت في الألم".
البداية مرعبة؛ تجعل المرء يخطط ويخطط ويخطط، وعندما تأتي اللحظة الحاسمة يعودُ لينهمكَ في التخطيط مماطلًا. فلا بد أنك تتذكر تلك المرَّة التي تسمَّرت فيها أمام صفحة المياه محاولًا أن تقفز إليها، وكيف كنت مترددًا آنذاك وأنت تقف كالطفل تشاهد وجهك على الصفحة الرقراقة وباطنُ قدميك تلهبهما الرمال، فتتململ بجسد شبه عارٍ، تستجدي اللحظة التي تأتيك فيها الشجاعة لتقفز وتضربك برودة المياه... إنها البداية، مهما كانت الفترة التي تليها بسيطة هيِّنة.
إنه رعب البدايات الذي سيظل مُقبِضًا على الدوام.
فليست العِلَّة في هذا المسكين الذي ترونه الآن مُكبًّلًا، هذا الوجه الشاحب الصارخ المتعرِّق الذي بلغ مداه من أمارات الهلع، تلك لم تكن بدايته، وليست العِلَّة أيضًا في ساحة رعنان الشاسعة التي تمتدُّ لأكثر من أربعين فدَّانًا من القفر الممتلئ بخردة السيارات أو قضيب القطار الذي يقطع الساحة إلى نصفين ليهز كيان الصمت كل بضع دقائق.
فأين تكمن العِلَّة إذن؟
دعونا نصِف المشهدَ بالتفصيل:
رجلٌ أربعينيٌّ هزيل مُكبلٌ بإحكام على كرسيِّ سيَّارة، الدماء نضحت حول معصميه وقدميه بفعل القيود التي رُبطت بسادية مطلقة، حرارة الشمس من أعلى لا ترحم، وقضيب القطار من أسفل ينفث سخونته كأنفاس تنين، ولا يُكمل هذا المشهد الجحيميّ، علاوةً على صراخه المتواصل، سوى القطارِ القادم في الأفق ينوح في حزم وكأنه ملك الموت جاء ليهمس في أذنه.
يحاول المذعور أن يتحرَّرَ بكل طاقته، دون جدوى. اقترب الوحش،أمتار قليلة وستصنع العجلات الحديدية عجينًا من اللحم البشريَّ، والضحيَّة.. آدم وجيه".
نعم، اسمُه آدم وجيه.
تذكَّروا هذا الاسم جيِّدًا، فربما نحتاج إليه قريبًا.
أما الآن، فدعوني أحكي لكم القصة منذ البداية.
أعرِّفكم بنفسي:
اسمي آدم، آدم وجيه.
نعم، كما سمعتم بالضبط.
هذا الأحمق لم يكن في الحقيقة أنا.
كيف أخفقت؟ لماذا أخفقت؟ بكلِّ صدق لا أعلم، ولا أعلم أيضًا لِمَ يجب على المرء أن يُبتلى بهذه الطرق المتعرِّجة في حياته؟
قدرٌ عنيد غير متزن منذ بدء الخليقة.
أراه كالإمبراطور الساديِّ الذي يعتلي عرشه على جبل عالٍ، تضيء عيونه في استمتاع كلما قام باستنشاق الغبار الصاعد من أسفل المنحدر، الغبار الناجم عن ماراثون التزاحم والتلاحم لبني آدم، لا يوجد طريق مرسوم، بل مسارات معوجة وأمواج تتخبط واحدة تلو الأخرى لتحطم أفلاكًا وأفلاكا وكأنها خطوط على صفحة بيضاء من صنع قلم بيد طفل في الخامسة مصاب بالجنون.
سأقصُّ عليك ما حدث لي في آخر عشرين يومًا من حياتي حتى اليوم الموعود، اليومِ الذي قضيت فيه نحْبي.

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: 11 hours ago ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

ملاك الظلWhere stories live. Discover now