حبور

132 11 1
                                    


كان يوما باردا من أيام ديسمبر القاحلة الجرداء التي لا يرى فيها لا شمس ولا مطر لا شيء إلا غيوم عظيمة ملأت ارجاء السماء الواسعة ولونتها بدرجات باهتة من الكدر و مسحة طفيفة من الحزن . كنت حينها اجلس في طرف غرفتي اراقب الضوء ينساب شحيحا من النافذة لا يكفي الا لتبيان السطح الخشبي للمكتب العجوز , كان كل شيء يرفع الغل داخلي والغضب الذي اصبح يتفجر كبركان ثائر حتى برودة الجو الداكنة لم تفلح في التخفيف عني , جلت ببصري على اثاث غرفتي الخشبي المعتق بالرطوبة , واقلامي المعدودة والكرسي المهترئ الجاثم في الزاوية و المدفئة العتيقة التي ترشح دفئا هزيلا وحتى ملابسي المصفرة لم تسلم من كرهي الاعمى نحوها .
كم انا سيئة الحظ وكم يكرهني الرب حتى خلقني في هذه العائلة المنكوبة اكتم الحسرات عندما أرى زملائي المشرقين في المدرسة بأغراضهم الملونة الزاهية , غام عقلي لحظتها بحقيقة اني لن اعرف السعادة ابدا وانا احتجز بين هذه الجدران الواهنة .
وطافت في عقلي مشاجرتي الأخيرة مع امي واخي , لا احد بأمكانه تقدير مشاعري ابدا , حتى امي لم تبالِ بالمرارة في أعماقي واكتفت بالقلق على اخي الذي خرج غاضبا من المنزل و لم يعد حتى الان .
فنت ساعة تلو أخرى وانا ما زلت اقبع في ركن مظلم من الغرفة , شعري ينسدل على وجهي كجنية بائسة , كل شيء كان ساكنا سكون مقبرة مهجورة حتى صرخت امي لتهز اركان البيت ويخترق صوتها الجدران الهشة , اندفع قلبي من مكانه بعنف بعد ان وعيت ما صرخت به ,, ماذا حصل لابني '' , دارت هذه الجملة بعنف في قلبي وانا اندفع راكضة نحو الأسفل استمع لنحيب امي المفجوع رأيتها ترتدي عباءتها بسرعة فتزلزل قلبي وعدوت بكل ما استطيع من سرعة ارتدي عبائتي والحق بوالدي الى العلبة الصفراء الملقاة بأهمال في ركن الشارع .
انطلقنا لافهم بعدها ان وجهتنا هي المشفى وان اخي قد أصيب بشدة في حادث , اسودت الدنيا في عيني وضاقت الأرض لتمنعني من التنفس تجمعت في عقلي ذكرياتنا الصغيرة المتناثرة , وطرح قلبي المرتجف السؤال ,, هل حقا سأخسر اخي ؟'' وللمرة الأولى في حياتي كبلني العجز بقيوده ولم استطع الإجابة , لسعت عيني حراره الدموع المنهمرة على صحراء وجهي العطشى وراحت المناظر امامي تتشوش حتى لم اعي بعدها الا صورة اخي يخرج غاضباً من المنزل هذا الصباح , لأهمس بحرقه ,,هل انا السبب؟'' وراحت شهقاتي تعلو وتعلو حتى وصلنا الى المشفى الذي جثم في نهاية الشارع كوحش فاغر فاهُ سرت في جسدي رعشة عندما خطوت أولى خطواتي الى الداخل لتهاجمني رائحة الموت المتغلغلة بين ثناياه وشقوقه .
ورحت اجول ببصري بين الأجساد الدامية المتناثرة بين الغرف المتقابلة حتى وقف ابي امام رجل في خريف العمر هتف بأبي فورا ,, ابنك في غرفة العمليات - واردف بعد وهلة - حالته ليست جيدة '' .
وقعت هذه الكلمات بقسوتها على قلبي الضعيف لتسحقه حينها فقط ادركت ان الله كان دائما يغرقني في تلك النعم التي حقا لم اشعر بها حتى اقتربت بجهلي من فقدانها , شعرت حينها بمقدار حب الله لي وعطفه علي , جريت الى الخارج ووقفت تحت السماء الرمادية ربما حينها تكلمت او لم أتكلم لا اذكر حقا , الا اني حقا في تلك اللحظات وقفت بقلب محمل بالامتنان وبثثت همي وحزني ورغبتي بشفاء اخي الى السماء , و خلال لحظات هدأ قلبي الموجوع وسكنتني اطمئنان ورضى لم اعهده قبل او بعد ذلك اليوم
ورحت اسير بخفة طير الى الداخل حيث رأيت امي وابي مجتمعين حول جسد اخي الموصول بالأجهزة النابضة , احتضنت امي ورحت استمع الى دفء انفاس اخي المترددة كانت اجمل من كل انغام الكون وقعاً على اذني في تلك اللحظات , غُمر قلبي حينها في بحر من السعادة الخالصة وايقنت ان الله يسمعنا دائماً وابداً وإن السعادة جميعها تسكن في دفء كمال عائلتي حولي

مجموعه قصصية حيث تعيش القصص. اكتشف الآن