يجتاحني الظلام...
أسمع صوت رنين لا يتوقف ،أحس أن جسدي يتجمد و رجفة سريعة تسري الى عنقي ، بالكاد أستطيع استنشاق الهواء ، فمي يملأه التراب وكأنني مدفون بلا كفن ، لم أكن أرى أبعد من أنفي ... أحس بالألم يسري في عروقي ، كنت شبه حي ،أكافح لأبقي بعضا من النسمات تلج رئتي ،و جبال من الصخور تضغط صدري... لم تمر لحظات حتى اختلطت أصوات صراخ بعيدة مع الصفير الذي يلازم سمعي و كأن هناك من يحاول إيقاضي من كابوس ، حاولت التحرك فإذا بي عالق تحت أطنان من التراب و ضغط هائل يكاد يمزق جسدي ... استوعبت حينها انني تحت الأنقاض و هناك من يحاول إنقاذي فبدأ ذهني يرسم صورا كنت أراها على القنوات الفضائية لفرق الإنقاذ يحاولون إغاثة الضحايا تحت حطام البنايات التي استهدفتها قنابل و براميل طيران النظام السوري ... بذلت جهدي لأصدر أي إشارة تشي بوجود جسد هامد يشكو العجز ،لكن دون جدوى، استنفذت كل قواي حتى استسلمت أخيرا و غصت في غيبوبة لا أعلم كم ستدوم ... لم أكن لحظتها قادرا حتى على التفكير فيما جرى قبل دقائق أو قبل ساعات ولم أسترجع أي لحظة من الماضي ولم أبحث في سجل ذكرياتي من أنا و أين كنت !! ... كل ما كنت أعلمه أنني بين أحضان التراب أصارع الموت و أتوسل إلى الله أن تبقى رئتاي تعمل ولو ببعض المليليترات من الهواء الذي أستهويه عبر فتحات أصغر من ممرات ديار النمل ...-باسل ... باسل أتسمعني ؟!
أستيقظ على صوت خافت ينادي باسمي ، بدت الصورة غير واضحة في البداية ثم استطعت تمييز الوجه ، إنه خالد صديقي و رفيق دربي ... حولت نظري من حولي فإذا بي في قاعة كبيرة يغلب عليها اللون الأبيض والكثير من المرضى و عائلاتهم من حولهم، كنت أتساءل هل أنا حي أم أنا في البرزخ أنتظر ؟...أدركت أن الأمور ليست على مايرام و عاد شريط الأحداث إلى ذهني !!كنت عائدا من الجامعة بعد صباح حار و مرهق من أيام شهر أوت ،الذي داهمنا هذا العام على غير العادة بموجة حر شديدة جعلت العطش ينال منا في شهر رمضان المبارك... في طريقي إلى منزلي الجديد قررت التوقف عند أحد المتاجر لأشتري بعضا من الحليب المجفف لطفلي الصغير ، و بينما أنا منهمك في اختيار العلبة ذات المواصفات التي أطلعتني عليها زوجتي فإذا بأصوات تتعالى في الخارج و تصيح 《الله أكبر الله أكبر 》كانت لحظة فظيعة، أحسست لوهلة أن قدري يبشرني بفاجعة قريبة... ما إن دخلت تلك الهتافات أذني حتى علاها صوت طائرة حربية فوقنا تماما، لم أكمل ربط الأحداث في ذهني حتى رأيت باب المتجر يندفع بقوة هائلة في اتجاهي، وشظايا الزجاج المنكسرة تنتشر في موجة واحدة يتبعها تشقق الجدران ،ثم إنفصل السقف عنها وهوى كل شيء في اتجاه واحد، كنت أشاهد فلما سينيمائيا بالعرض البطيء بينما يحدث ذلك في أجزاء من الثانية ، ركض الناس في اتجاه المخرج الذي بالكاد أراه و سرعان ما داهمتنا سحابة هائلة من التراب الممزوج بدخان داكن ... ثم انقطع الفلم . لم ترحمني تلك القنبلة حقا و دستني بين بقايا بناية منهارة لكن حمدا لله بأعجوبة لم أصب في جسدي ، فقط بعض الكدمات تعلو كتفي و ظهري ...
أنت تقرأ
أسير غربة و رصاص
Aventuraرواية من قلب سوريا ،تسرد تفاصيل معانات عائلة باسل التي زرع صوت الرشاشات و القنابل الخوف بين أركانها، و سقت الغربة ثناياها... قصة على لسان باسل وهو يصارع الموت من أجل زوجته و أطفاله خلال الأزمة السورية، إنطلاقا من حلب ثم تركيا ثم لبنان و مصر وصولا إل...