الشحاذة

1.6K 129 24
                                    

#الشحاذة
أتى بها من إحدى القرى المجاورة لمدينته بعد أن تزوجها. كانت من أسرة فقيرة مليئة بالأطفال، فما كاد يطلب يدها حتى ألقاها والدها في يديه كلها. لم يطلب شيئا سوى حفنة من المال يعيل بها اسرته، و كأنه يبيع إحدى المواشي.

متوسطة الطول، عيناها واسعتان، و لون الحدقتين شديد السواد. شعرها فاحم أجعد، و أنفها طويل.. فمها واسع عريض و بشرتها مزيج من الحنطي و الأسمر. لم تكن باهرة الجمال و لكنها مليحة الملامح. قوامها يميل للامتلاء خاصة بعد ولادة طفلها الثالث منه.

أما هو فطويل نحيل، يعمل كفني ماكينات في إحدى شركات البترول الكبرى. مرتبه مجزي يكفل الحياة الكريمة له و لأسرته. ينفق على البيت بحساب، و يصر أن يعرف كل صغيرة و كبيرة في البيت عند عودته في الثامنة مساءكل يوم، مستفسراً منها عن كل قرش و جنية تم صرفه، و في ماذا أُنفق؟

كانت تضيق بذلك ذرعاً، فهي ترغب في إدخار بعض المال لها للمستقبل. تعلم جيداً ألا أمان للرجال، و أنه في يوم ما سيتزوج عليها. تفتق ذهنها عن فكرة عظيمة بعد أن سمعت زوجها يوماً يقرأ خبراً في الجريدة عن شحاذة أكتشف الناس أنها تركت خلفها ثروة طائلة بعد موتها. ستصبح شحاذة! و لما لا؟ ما الضير؟ لن يعلم زوجها شيئاً، فهو يعود كل يوم في الثامنة مساءاً. و هي ستكون في البيت قبل هذا الموعد بوقت طويل.

ذهبت لبيت أبيها بعد استئذان زوجها بزيارته، و أعطت أمها جلبابا من جلابيبها الجديدة، و طلبت أقدم جلباب لدى أمها بحجة أنها تود أن تقوم بأعمال المنزل به دون أن تتلف أيا من ملابسها الأخرى، فأعطها أمها الثوب دون أن ترتاب بشيء.

. هكذا رتبت أمر ملابس العمل، فقامت بتمزيق بعض أجزاء الثوب، و فركته بقدمها في تراب الشارع حتى يبدو رثاً بالياً حقاً.

عندما يغادر زوجها في السادسة صباحاً، مصطحبا ابنتيه للمدرسة في طريقه للعمل، تخرج هي في تمام السادسة و النصف حاملة وليدها ذو الشهور الخمس، بعد أن تلبسه ملابس قديمة قامت بتحويلها إلى أثمال باليه، و أصبغت على وجهيهما و ملابسهما الوحل، فيتحول شكلها مائة و ثمانين درجة، و تبدو فعلاً كإحدى شحاذات الغجر. تلف في الاسواق البعيدة عن مسكنها كي لا يتعرف عليها أحد، و تقوم بقرص ولدها كلما إقتربت من بائع متضرعة إياه بالدعاء، و مستدرة العطف و الشفقة في القلوب الرحيمة..

هكذا بدأ عملها، و الذي مع مرور الوقت بدأ يثمر عن جهدها المستميت في أن تسعى أطول فترة ممكنة قبل موعد خروج ابنتيها من المدرسة، كي تجد الوقت الكافي للعودة للمنزل و تغير ملابسها في دورة مياة محطة القطار. كانت تجمع حوالي الألف جنيه في الأسبوع. و كلما إدخرت مبلغاً إشترت به ذهبا و خبأته في صندوق في دولاب ملابسها.

أحياناً كانت تعطف عليها إحدى السيدات الثريات في السوق، و تجزل لها العطاء، فتتبعها دون أن تعرف تلك المحسنة أنه قد تم إقتفاء أثرها. لتجدها واقفة بطفلها على باب عتبة دارها في كل مناسبة دينية أو غيرها تطلب الحسنة، فتأبى السيدة العجوز أن تردها خائبة رغم ضيقها بهذا التصرف أحياناً.

لم يدر الزوج شيئاً قط، فقد كان يعود للبيت يجد كل شيء مرتباً، و طعامه ساخن معد، و هي في ابهى صورها. الشيء الوحيد الذي اختلف هو لون بشرتها الذي أصبح أكثر سمرة، و الذي تعللت بأنه بسبب الشمس التى تتعرض لها عند التسوق.. بخلاف ذلك كل شيء في ظاهره كما هو.

كانت تشتري بمكسبها كله ذهباً تكنزه في صندوق تخفيه تحت خزانة ملابسها.. تفتح الصندوق كل يوم، و تتزين بما في محتواه كله ناظرة إلى نفسها في المرآة. لقد تعلق قلبها بما في الصندوق، و طغى حبها للمال والذهب على حبها لزوجها و أبنائها.

استمر الحال هكذا لبضعة سنوات دون أن يعلم أحد. لكن دوام الحال من المحال، و ما تم في الخفاء، لابد أن ينكشف في يوم ما تحت نور الشمس. فقد رأتها إحدى جاراتها في إحدى المحلات.. لم تعرفها في باديء الأمر نظرا لمظهرها الرث، لكنها دققت في ملامحها، و تأكدت من أنها هي عندما رأت الإرتباك على وجهها، و محاولتها البائسة للفرار من أمام نظراتها. لم تكذب المرأة خبراً، فقد وجدت حديثاً شيقاً تلوكه ألسن نساء الحي. و انتشر الخبر كإنتشار النار في الهشيم.

كل هذا و الزوج لا يعرف شيئاً. حتي ذلك اليوم الذى كان عطلة من عمله و كان جالسا مع أصحابه في المقهى، و إختلف في الرأي معه. ليشتد الخلاف بينهما، فما كان من هذا المدعو صاحباً بالاسم إلا أن قال، "إذهب و صن عرضك التي تدور على البيوت و الأسواق تطلب المال متسولة لكل من تراهفي طريقها!" لم يرى المسكين نصب عينيه سوى اللونين الاسود و الأحمر، فقام بضرب الرجل لكمة في أنفه، و نظر بغيظ لكل من حوله، فوجدهم يديرون رؤوسهم بعيدا عن مواجهة عينيه.

أسرع إلى منزله قبل الموعد المعتاد له، فوجدها امام المرآة ترتدي كل حليها و تضحك ببلاهة. أخذ يضربها و يركلها على ما سببته له من امتهان و إهدار للكرامة، و كل السخرية التي كان يراها في عيون أهل الحي، و لا يعرف لها سبباً. أما هي فأخذت تحمي سلاسلها و قلادتها و آساورها و خواتمها أكثر مما تحمي جسدها من الركلات و الضربات.

قال لها أنها لن ترتدي أي منها بعد اليوم، و أنه سيهب كل هذا الذهب لله بعد بيعه بأبخس سعر كصاحبته، و أنها لن تظل على ذمته بعد اليوم، و سيرجعها ذليلة إلى بيت أبيها كما ذلته أمام أهل الحي. لم تعي مما قاله شيئاً سوى أنه سيأخذ منها ذهبها. فأخذت تصرخ و تصيح و تشد شعرها أنها لن تفارق هذا الذهب أبدا. لكنه لم يبال بالصراخ و أخذ يشد القرط من أذنيها، و الأساور من معاصمها، و كل السلاسل و القلادات التي انبعجت و تقطعت ما بين شده العنيف، و مقاومتها المستميتة حتى جردها من كل شيء و ذهب آخذاً معه الصندوق و محتواه.

أخذت تأن تارة، و تصرخ تارة أخرى، و تنادي على ذهبها الذي ضاع. حين وقفت لم تنظر إلى وجها الدامي المتورم في المرآة، و لكن أخذت تنظر إلى نفسها بدون تلك الحلي الذهبيه التي كانت تبرق على جسدها، و بدأت بالضحك الهستيري بلا توقف و ظلت ترقص أمام المرآة و قد أصابها الجنون.. أطفالها الثلاثة ينظرون إليها من خلف مدخل حجرتها و دموع الرعب و الفزع على وجوههم. أين تلك المليحة الباسمة التي كانت في يوم ما أمهم؟
#سلوي
©Salwa M
19th/4/2016


الشحاذةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن