عز العبوديةعبادة الله هي المهمة العظيمة التي من أجلها خُلق الخلق، وهي بمفهومها الشامل لا تقتصر على أداء الشعائر التعبدية - من صلاة وصيام وحج وذكر وغير ذلك - فحسب، ولكنها تمتد لتنتظم حياة الإنسان كلها بشتى جوانبها وأنشطتها بحيث لا يخرج شيء منها عن دائرة التعبد لله رب العالمين، وتمتد كذلك لتشمل جميع ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين } (الأنعام: 162).
ولا يبلغ الإنسان ذروة الكمال البشري في العزّة والشرف والحرية حتى يحقق هذه الغاية، وقد وصل إلى هذا الكمال أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، وفي مقدمتهم نبيّنا محمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، الذي خاطبه ربُّه جل وعلا في أعلى مقاماته - مقامِ تلقي الوحي ومقامِ الإسراء - بوصف العبودية، باعتبارها أرقى وأعظم وأشرف منزلة يرقى إليها الإنسان، فقال سبحانه: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا } (الكهف: 1)، وقال في مقام آخر: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } (الإسراء: 1)، وكلما ازداد العبد تحقيقاً لهذه العبودية كلما ازداد كماله وعلت درجته.
وكل من تعلّق قلبه بمخلوق وأحبَّه، وعلق عليه نفعه وضرَّه فقد وقع في ربقة الرقّ والعبودية له، شاء أم أبى، إذ الرقّ والعبودية في الحقيقة، هو رقُّ القلب وعبوديته، ولهذا يُقال: العبد حرٌّ ما قنع، والحرُّ عبدٌ ما طمع ، وكلّما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه في قضاء حاجاته، كلما قويت عبوديته وحريته عمَّا سواه، كما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره .
حقيقة الغنى
ولهذا فإن حقيقة الغنى إنما هي في القلب، وهي القناعة التي يقذفها الله في قلوب من شاء من عباده، فيرضون معها بما قسم الله، ولا يتطلعون إلى مطامع الدنيا أو يلهثون وراءها لهث الحريص عليها المستكثر منها، وقد بين ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله: (ليس الغنى عن كثرة العرَض، ولكن الغنى غنى النفس) كما في البخاري ، وقال لأبي ذر : (أترى أن كثرة المال هو الغنى ؟! إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، من كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا، ومن كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدنيا، وإنما يضر نفسه شحها) رواه ابن حبان وصححه الألباني .
وكم من غني عنده ما يكفيه وأهله عشرات السنين، ومع ذلك لا يزال حريصاً على الدنيا، يخاطر بدينه وصحته، ويضحي بوقته وجهده، وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس، مع أنه قد لا يجد قوت غده، فالقضية إذاً متعلقة بالقلوب وليست بما في الأيدي.
وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى ؟ قال: قلة تمَنِّيك، ورضاك بما يكفيك ، وقد أحسن من قال:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر
علاج الهم
وهذا الحديث العظيم يضع للعبد علاجاً عظيماً للهموم والغموم التي يتعرض لها في حياته الدنيا، هذا العلاج هو الاشتغال بما خلق له وهو عبادة الله عز وجل، والاهتمام بأمر الآخرة، فإن العبد إذا شغله همُّ الآخرة أزاح الله عن قلبه هموم الدنيا وغمومها، وخفف عنه أكدارها وأنكادها، فيصفو القلب ويتجرد من كل الأشغال والصوارف، يقول - صلى الله عليه وسلم -: (من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك) رواه ابن ماجة وغيره بسند حسن.
وفي حديث الترمذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له) صححه الألباني .
فعلى العبد أن يقنع بما قسم الله له، وأن يثق بوعد الله وحسن تدبيره له، وألا يكون شديد الاضطراب والخوف مما يستقبل، فالمستقبل بيد الله، وأن ينظر إلى من هو دونه في أمور الدنيا، وليستعن على ذلك بقصر الأمل واليقين بأن الرزق الذي قُدِّر له لا بد وأن يأتيه وإن لم يشتد حرصه، فليست شدة الحرص هي السبب لوصول الأرزاق.