هذه دمشق جنة الله في أرضه، تتخايل بمروجها الخضراء، ورياضها الزهر، وبنسيمها الذي اعتلَّ فصحت به الأجسام، ورق فهفت له الأرواح، ومر وئيد الخطى فتشبثت بذيله الأزهار، وهذه جداولها التي تجري في خرير عذب يناغم تغريد الطيور، تفترق وتلتقي فتصور الحياة بين يأس ورجاء، وفرقة ولقاء، ثم لا تفتأ تتعثر بين الخمائل، وتنحدر بين الغياض، حتى تلتقي بنهر بردى فيلتقمها زخاره الخضم، ويدور بها كالمذعور الحائر يلج كل دار، ويخرج من كل حائط.
هذه دمشق بقبابها العالية، وقصورها الشامخة، ومآذنها التي امتدت إلى السماء كأنها تطلب شيئًا في السماء.
هذه دمشق في سنة ثنتين وتسعين للهجرة، في أيام خليفتها العظيم الوليد بن عبد الملك.
عظمة وسلطان ومُلْك عريض، وقوة أخضعت الفرس، وجثت أمامها بيزنطة خاشعة تلقي الزمام في ذل وخضوع، ومشت إليها الرسل من أقاصي أوربا والشرق يطلبون الزُّلْفَى، ويستجدون نظرة رضا تضع قلوبهم في أمكنتها، وسارت كتائبها في أرجاء الأرض فاتحة غازية لا يفارق النصر رايتها، ولا ينزل الدهر إلا عند كلمتها.
ثم سياسة ودهاء ومراس بالحكم ملأت بها دولة أمية القلوب خشية ورعبًا، أو إخلاصًا وحبًّا، وجردت كل سيف من غمده في الذياد عن حوزتها، وبذل النفس رخيصة في توسيع رقعتها.
هذه دمشق أيام الوليد بن عبد الملك، وقد كانت زينة العواصم، وقرة عين الدنيا، تموج بمن يردون عليها من أقطار الأرض من عرب وترك وروم وبربر.
وكانت في هذا اليوم الذي تبدأ فيه قصتنا شديدة الزحام، انتشر الناس في أرجائها جماعات جماعات، وأخذ بعضهم يصافح بعضًا في سرور ونَزَق، وخرج كثير منهم عما اعتادوه من وقار وتحرج، وكان الشبَّان يتغنَّوْن بأهازيج تترنم أنغامها بمجد العرب، وبسالة العرب، وإقدام العرب.
وانتزعت فتاة خمارها وانتطقت له، ثم انطلقت ترقص بين تصفيق المعجبين، وترديد المنشدين، وكان من أراجيزهم:
«لذريق» قد طارت بك الأوهامُ
ما لك عند طارق كلامُ
أبطالنا غطارف كرامُ
الحق في يمينهم حسامُ
وراية يرفعها الإسلام
ُعزيزة في الجو لا ترامُ
الدير «لذريق» أو الحمامُوكان يقف ناحية شيخ جاوز الثمانين، حطمته الأيام، وحنت ظهره أثقال السنين، فتقدم نحو أحد الشبان، وسأل في كلمات تعثر بها لسانه: ما الخبر يا فتى؟
– فتحنا الأندلس، وانتصرت جيوش طارق بن زياد بوادي «لكَّة» على علوج «القوط»، وفر صاحب مملكتهم المسمى «لذريق» بجواده فلم يقفوا له على أثر.
– هذا فتح مبين يا بني! ولو أطاعتني عصاي، وحملتني ساقاي، لرقصت مع الراقصين.
ثم لوح الشيخ بعصاه، وصاح بقدر ما يستطيع صوته: «هلم إلى دار الخلافة، هلم إلى الوليد بن عبد الملك، إن هذا اليوم يا أبنائي يوم مشهود يجب أن تسرع فيه الوفود إلى تهنئة أمير المؤمنين.»
وكان لهذا الصوت الضعيف من هذا الشيخ الفاني سحر تفتحت له القلوب، وأصغت الأسماع، فتزاحم الناس صائحين. «إلى دار الخلافة! إلى دار الخلافة!»
كانت دار الخلافة بالجانب الشرقي من دمشق تطل على الغوطة التي تعد من أجمل منازه الدنيا، وكانت تُرَى من بعيد جاثمة فوق ربوتها العالية كأنها الحصن العظيم.
وهي بناء بيزنطي قديم بذل فيه الفن والمال ما جعله صورة ناطقة بالجمال، وأثرًا باقيًا للعظمة والجلال.
جلس الوليد في أصيل هذا اليوم في القاعة الكبرى التي يستقبل فيها الوفود وكبار رجال المملكة، وجلس إلى يمينه سليمان بن عبد الملك، وإلى يساره مسلمة بن عبد الملك، الذي لم تترك غزواته للروم بلدًا لم يرتفع فيه صوت مؤذن، ثم جلس بعدهما كبار دولته، وكان منهم: عبد الله بن همام السلولي، وقتيبة بن مسلم، وأبو القاسم المخزومي، والمغيث بن الحارث، وحبيب بن عقبة.
فبدأ الكلام عبد الله بن همام وكان ذرب اللسان حاضر البديهة، فقال: إن هذا الفتح يا أمير المؤمنين إلى ما أنعم الله به علينا من فتح الهند والروم وأقصى بلاد خراسان، لدليلٌ على يمن طالع أمير المؤمنين وسعادة جده، وأن المسلمين في أقطار الأرض ليتجهون نحو دار الخلافة كما يتجهون في صلاتهم إلى القبلة، ويرون أن أمير المؤمنين — أمتعنا الله بحياته — عصمة دينهم، ومجد دنياهم، وحامل رايتهم إلى الظفر والانتصار.
أنت تقرأ
الفارس الملثم ✔
ChickLitتبرهنُ هذه القصة على أنَّ البطولةَ التي تسطِّرُ المجد في صفحات التاريخ لم تُخلَق لكي تهبَ نفسها للرجالِ دون النساء؛ فلقد سطَّرت بطلة هذه القصة «عائشة المخزوميَّة» صفحةً مضيئةً من صفحات النضال في التاريخ الإسلاميِّ بطموحها الذي شقَّ طريقه عبر جبال ال...