هالها أن الفتاة مفتونة بها مشغوفة، وأن هذا الشغف قد يكشف سرَّها الذي بالغت في كتمانه؛ فرأت من حسن الرأي أن تجامل وتراوغ حتى يفصل بينهما غمار الحرب، فقالت: إن لك مكانًا يا فتاتي في كل قلب، ولو أن بنات الإسبان كُنَّ مثلك لانتصرنَ على طارق وجيشه بسهام عيونهن.
فضحكت فلورندا، ومدت يدها إلى عائشة، وسألت: أتعرف من أنا؟
– كيف أعرف يا فتاتي وأنا لم أصل إلى سبتة إلا هذا الصباح؟
– أولًا ما اسمك؟
– أسامة الفهري.
– أنا فلورندا. فلا تقل «يا سيدتي» أو «يا فتاتي»! ولكن ادعني باسمي هكذا مجردًا كما يدعو الصديق الصديق.
– سمعًا وطاعة يا …
– فلورندا.
– يا فلورندا.
– إن أبي يوليان كان حاكم سبتة، وهو من عظماء القوط. وكانت العادة أن يرسل أمراء المملكة بناتهم إلى قصر الملك لتدريبهنَّ على آيين القصور، فأرسلني أبي إلى بلاط لذريق؛ فرأيت من لمحاته وكلماته ما أعجلني إلى الفرار بعرضي. وعلم أبي بالأمر فاشتد غضبه، وأقسم بدين المسيح أن يكون حربًا عليه مواليًا مع العرب، وذهب إلى قائدكم ابن نصير فعاهده على مناصرته وتذليل طريق الفتح لطارق، ولولا أبي ما استطاع جيشكم أن يفوز بهذا النصر المبين.
فابتسمت عائشة وقالت: إن لك أن تنسبي الفضل كله في هذا الفتح إلى أبيك يا فلورندا، فكل فتاة بأبيها معجبة كما تقول العرب في أمثالها. ولكنني أعتقد أن سيل العرب الزخَّار سيلتهم إسبانيا أساعدهم أبوك أم لم يساعدهم.
إن هذه صاعقة من السماء يا فتاتي لا يقف أمامها جيش، ولا تصدها قوة، وهل كان يوليان يعين جيش عمرو بن العاص حينما فتح مصر بأربعة آلاف مقاتل؟ وهل كان يوليان مع سعد بن أبي وقاص حينما سار لفتح الفرس بسبعة آلاف؟ دعي هذا يا فلورندا فإني أخشى أن أقول: إن أباك كان حكيمًا ألمعيًّا، وأنه رأى أن لا بد مما ليس منه بُدٌّ.– أنت تقسو على أبي.
– أنا أصفه بالحكمة والألمعية، وأنت ترمينه بخيانة قومه ووطنه، فأيُّنا أنصف الرجل؟
– هذا جدال على الطريقة العربية يا حبيبي.
– أو على طريقة الحق.
وبلغت السفينة في المساء جبل الفتح أو جبل طارق، وأرادت عائشة التخلص من الفتاة، فقالت: أنت ذاهبة إلى أبيك، أما أنا فسأبقى هنا قليلًا لأستريح.
فقالت فلورندا: إن أبي مع طارق وأنت ذاهب إليه، فلنذهب معًا.
فلم تجد عائشة بدًّا من مرافقتها فامتطتا جواديهما وخلفهما الخدم والعبيد، وما زالتا تغذان السير حتى بلغتا مدينة «أستجة»، وكان طارق قد فتحها، وأقام بها أيامًا؛ ليستريح جنده.
أنت تقرأ
الفارس الملثم ✔
ChickLitتبرهنُ هذه القصة على أنَّ البطولةَ التي تسطِّرُ المجد في صفحات التاريخ لم تُخلَق لكي تهبَ نفسها للرجالِ دون النساء؛ فلقد سطَّرت بطلة هذه القصة «عائشة المخزوميَّة» صفحةً مضيئةً من صفحات النضال في التاريخ الإسلاميِّ بطموحها الذي شقَّ طريقه عبر جبال ال...