الجزء الثالث

1.6K 95 2
                                    


ثم تهيأ الخليفة للقيام فانصرف القوم، واتجه أبو القاسم المخزومي إلى المغيث فوضع ذراعه على كتفه في حنان الأبوة، ثم همس في أذنه قائلًا:

ما أعجبك يا بني! لقد كنا نعد العدة لزواجك ببنت أخي عائشة، فماذا أنت قائل اليوم؟ وكيف تنفض إليها الخبر؟ إن نبأ رحيلك سينقض عليها انقضاض الصاعقة، فأجمِل لها الحديث يا بني وتلطف.

فقال المغيث وعلى وجهه سحابه من الحزن والقلق: لا تبتئس يا سيدي، فإن عائشة أشجع فتاة بدمشق، وهى لا تحب لمن اختارته لنفسها إلا أن يكون شجاعًا مقدامًا.
هلم بنا إليها.

عائشة المخزومية بنت هشام المخزومي من بيت عريق النسب، كريم الأَرُومة.

كان أبوها من حُمَاة الأموية وصناديدها، وكانت في ذلك الحين في العشرين من سنيها صبيحةً مليحةً رائعةَ القَسَمَات، مشرقة البَسَمَات، لها عينان يتألق فيهما السحر، وتتوثب الفتنة.

ثم هي إلى ما منحها الله من الجمال البارع، والحسن الفاتن، تعتزُّ بنفس عربية كريمة خلقت للشجاعة والإقدام وخطيرات الأمور.

جسم تحسده حور الجنة الحسان، ونفس أمضى عزيمة من الصارم الفصال.

خطبها المغيث إلى عمِّها فرضيته بعلًا لما عرفته وعرفه الناس فيه من البطولة والمروءة والطموح إلى العظائم.

إلى قسامة وجه، ورجاحة عقل، وحُسْن أدب، ولطف حديث.

وكان يزور دارها بين الحين والحين؛ فكانت كلما زادت به معرفة زادت به كلفًا وحبًّا، وكلما زالت بينهما الكلفة ونمت الألفة، زاد إكبارها له وافتنانها بأدبه وخلقه العظيم؛ لذلك أصبح حبه خيال أحلامها بالليل، وسمير وحدتها بالنهار.

دخل أبو القاسم مع المغيث فحيَّتْهُما عائشة في سرور وابتهاج، وصاحت: أعلمتما الخبر؟ لقد فتحنا الأندلس!

فقال لها المغيث مداعبًا: وعلمنا قبل ذلك أن فتاة تدعى عائشة المخزومية غزت القلوب، جلست فوق عروشها ملكة مطاعة!

فابتسمت عائشة وقالت: دع المزاح يا بن الحارث؛ فالأمر جِدٌّ وما هو بالهَزْل.

– هذا صحيح، وأظن طارقًا الآن في طريقه إلى طليطلة.

– يا له من فتح مبين!

– لا يكون فتحًا مبينًا إلا إذا ذهب حبيبك فملك الجزيرة كلها، وعاد إليك بتاج ملكة القوط؛ ليزين به أجمل جبين أشرقت عليه الشمس.

فبسر وجه عائشة كأنها توجَّست شرًّا وقالت: تذهب إلى الأندلس غازيًا؟

– نعم يا فتاتي، أذهب بعد أيام على رأس جيشي بأمر أمير المؤمنين.

فوثبت إليه تعانقه وتمسح بيدها على كتفه في رفق وتدليل وهي تقول: خذني معك يا مغيث، فإني لا أطيق أن يمرَّ يوم واحد دون أن أراك.

فقال المغيث في استنكار: كيف أصحب فتاة لم أكن لها بعلًا؟!

– نعقد الزواج غدًا، ونسير على بركة الله.

فقال في سخرية لاذعة: وماذا نقول للشاعر الذي يقول:

كتب القتلُ والقتالُ علينا
وعلى الغانيات جرُّ الذيولِ؟

– نقول: إنه مغرور أحمق، جهل الرجال ولم يعرف بعض خلائق النساء.
فليس كل رجل شجاعًا، وليست كل غانية خائرة العزم مكسالًا.
ما هذه الأَثَرَة أيها الرجال؟ كأن الله لم يخلق سواكم للمجد والبطولة.
نعم، إن الله مَيَّزَكم علينا ببسط الجسم، وقوة العضل.
ولكن قوة الروح وجرأة العزيمة أقوى من الحديد والنار.
والعزيمة إذا تمكنت من المرأة وتغذَّت بعواطفها، ونهلت من غرائزها، خاضت الأهوال، وعصفت بكل ما أمامها من عقبات وصعاب.
لقد زينت لكم كبرياؤكم أن المرأة لم تخلق إلا ليلهو بها الرجل في شبابها، ولتلهو هي بالمغزل في هرمها، فَرُحْتُم تتندرون بالنساء وبضعف النساء.
لِمَ لا تقود المرأة الصفوف، وتلاقي الحُتُوف، وتضرب في سبيل الله كما تضربون؟ إن الله فرض الجهاد على الرجل والمرأة معًا، فدعونا نقاتل في سبيل الله، ودعونا نقاسمكم ثمرات المجد أو نفز بالشهادة إذا وارتنا القبور.

كان المغيث مطرقًا واجمًا، فقد هاله ما سمع من فتاة بني أمية، وأبت عليه نفسه أن يُطفئ هذه الشعلة، أو ينال من هذه الحماسة بسوء، فربت كتف عائشة وقال: لم تزيديني يقينًا ببطولتك يا عائشة، ولن يزال الإسلام بخير ما زاحم النساء الرجال في ساحات المجد والجهاد.

فتهلل وجه عائشة وصاحت: إذن خذني معك يا مغيث؛ فتلعثم لسانه وقال: دعي هذه الغزوة يا عائشة، فإن الخليفة يخشى فيها على الرجال، فكيف يرضى أن تخوض غمارها النساء؟

– أَيَقِفُ الخليفةُ في وجه فتاةٍ رأت أبواب الجنة مفتحة فحنَّت إلى دخولها؟

– إن شؤون المسلمين أمانة في يده يا بُنَيَّة، وهو بهم رحيم، وعليهم حريص.

ثم انفلت من بين يديها في خفة الطائر الحذر، وقامت عائشة لتدركه فلم تجد له أثرًا، كأنما ابتلعته الأرض أو تخطفته السماء.

الفارس الملثم ✔حيث تعيش القصص. اكتشف الآن