كان زواج بنت العمدة وزواج حليمة نقطة تحول في حياة الزين . فقد فطنت أمهات البنات إلى خطورته ، كبوق يدعين به لبنان في
مجتمع محافظ ، تحجب فيه البنات عن الفتيان ، أصبح الزين رسولا للحب ، ينقل عطره من مكان إلى مكان ، كان الحب يصيب قلبه
أول ما يصيب ثم ما يلبث أن ينتقل منه إلى قلبه غيره ، فكأنه سمسارا أو دلال أو ساعي بريد ينظر الزين بعينيه الصغيرتين كعيني الفأر ،
القابعتين في محجرين غائرين ، إلى الفتاة الجميلة ، فيصيبه منها شيء - لعله حب ؟ وينوء قلبه الأبكم ذا الحب ، فتحمله قدماه
النحيلتان إلى أركان البلد ، يجري ها هنا وها هنا كأنه كلبة فقدت جراءها ، ويلهج لسانه بذكر الفتاة ويصيح باسمها حيثما كان ، فلا
تلبث الآذان أن ترهف ، وما تلبث العيون أن تنبه ، وما تلبث يد فارس من بينهم أن تمتد فتأخذ يد الفتاة . وحين يقام العرس ، تفتش
عن الزين ، فتجده أما مسخرا يا القلل والأزيار بالماء أو واقفا في منتصف الساحة عاري الصدر . في يده فأس يكسر به الحطب أو بين
النساء في المطبخ يعابثهن ، ويعطينه من آن لآخر قطعا من الطعام يملأ ا فمه ، وما يفتأ يضحك ضحكته التي شبه يق الحمار ، وتبدأ
قصة حب أخرى .. وكان الزين يخرج من كل قصة حب كما دخل ، لا يبدو عليه تغيير ما. ضحكته هي هي لا تتغير وعبثه لا يقل
بحال . وساقاه لا تكلان عن حمل جسمه إلى أطراف البلد .
ووفدت على الزين سنوات خصب مفعمة بالحب . فقد أصبحت أمهات البنات يخطبن وده ويستدرجنه إلى البيوت فيقدمن له الطعام ،
ويسقينه الشاي والقهوة ، يدخل الزبن الدار من تلك الدور . فيفرش له السرير ، ويقدم له الفطور أو الغداء في صينية وأوان ، ويؤتى
بعد ذلك بالشاي السادة بالنعناع إذا كان الوقت ضحى ، والشاي الثقيل باللبن إذا كان الوقت عصرا . وبعد الشاي يؤتى بالقهوة
بالقرفة والحبهان والجتربيل ، سواء كان الوقت ضحى أو عصرا وما يسمع النساء أن الزين في دار قريبة حتى يتقاطرن عليه ،
والسعيدة منهن من تقع في قلبه موقعا ، والتي يخرج واسمها على فمه ، تلك الفتاة تضمن زوجا في خلال شهر أو شهرين . ولعل الزينبفطرة فيه ، أدرك خطورة مركزه الجديد ، فأصبح يتدلل على أمهات البنات ويتردد قبل أن يجيب دعوة إحداهن للإفطار أو للغداء
.
كل هذا وفي الحي فتاة واحدة لا يتحدث الزين عنها ، ولا يعبث معها ، فتاة تراقب من بعد بعيون حلوة غاضبة ، كلما رآها مقبلة
يصمت ويترك عبثه ومزاحه ، وإذا رآها من بعد فر من بين يديها وترك لها الطريق .
وروجت أم الزين أن ابنها ولي من أولياء االله . وقوي هذا الاعتقاد صداقة الزين مع الحنين . كان رجلا صالحا منقطعا للعبادة ، يقيم
في البلد ستة أشهر في صلاة وصوم ، ثم يحمل إبريقه ومصلاته ويضرب مصعدا في الصحراء ، ويغيب ستة أشهر ، ثم يعود ولا يدري
أحد أين ذهب . ولكن الناس يتناقلون قصصا غريبة عنه ، يحلف أحدهم أنه رآه في مروى في وقت معين . بينما يقسم آخر أنه شاهده
في كرمه في ذلك الوقت نفسه - وبين البلدين مسيرة ستة أيام . ويزعم أناس أن الحنين برفقة من الأولياء السائحين الذين يضربون في
الأرض يتعبدون والحنين قلما يتحدث مع أحد من أهل البلد ، وإن سئل أين يذهب ستة أشهر كل عام . لا يجيب . ولا أحد يدري
ماذا يأكل وماذا يشرب ، فهو لا يحمل زادا في أسفاره الطويلة .
ولكن في البلد إنسانا واحد يأنس إليه الحنين ويهش له ويتحدث معه - ذلك هو الزين ، كان إذا قابله في الطريق عانقه وقبله على
رأسه ، وكان يناديه " المبروك " . وكان الزين أيضا إذا رأى الحنين مقبلا ، ترك عبثه وهذره وأسرع إليه وعانقه . ولم يكن الحنين يأكل
طعاما في بيت أحد ، إلا دار أهل الزين يسوقه الزين معه إلى أمه ويأمرها بصنع الغداء أو الشاي أو القهوة . ويظل الزين والحنين
ساعات في ضحك وكلام ، ويحاول أهل البلد أن يعرفوا من الزين سر الصداقة التي بينه وبين الحنين فلا يزيد على قوله : " الحنين
راجل مبروك " .
كانت للزين صداقات عديدة من هذا النوع ، مع أشخاص يعتبرهم أهل البلد من الشواذ ، مثل عشمانة الطرشاء ، وموسى الأعرج ،
وبخيت الذي ولد مشوها ، ليست له شفة عليا ، جنبه الأيسر مشلول ، كان الزين يحنو على هؤلاء القوم ، إذا رأى عشمانة قادمة من
الحقل وعلى رأسها حمل ثقيل من الحطب حمله عنها وهش لها وداعبها ، كانت فتاة تخاف من كل أحد ، إذا صادفت امرأة أو رجلا في
طريقها ارتعبت وفزعت ، كأم وحوش مفترسة ، ولكنها كانت تأنس للزين وتضحك له ضحكتها البكماء المحزنة التي تشبه صياح
الدجاج ، وموسى الذي لا يذكر الناس اسمه ولكنهم يسمونه الأعرج ، رجل طاعن في السن ، حين تراه مقبلا ينفطر قلبك من كثرة
ما يعاني في مشيه ، الحياة بالنسبة له طريق متعب شاق ، كان عبدا رقيقا لرجل موسر في البلد ، ولما منحت الحكومة الرقيق حريتهم ،
آثر موسى أن يبقى مع مولاه ، كان مولاه شغوفا به يحبه ويبره ويعامله معاملة الابن ، ولما توفي آلت الثروة إلى ابن سفيه ، فبددها
وطرد موسى . وأدركته الشيخوخة وهو معدم لا أهل له ، ولا أحد يعنيه أمره . فعاش على حافة الحياة في البلد ، كما تعيش بعض
الكلاب العجوزة الضالة ، التي تأوي إلى الخرابات في الليل ، وتبحث عن القوت اراً في فجوات الحي ، يتحرش ا الصبيان ، عطف
الزين على هذا الرجل ، وبنى له بيتا من جريد النخل وأعطاه معزة ملبنة كان يأتيه في الصباح فيسأله كيف بات ليله ، ويأتيه بعد
غروب الشمس ، مالئا جيوبه بالتمر وثوبه منتفخ بالطعام ، فيلقيه بين يديه ، وأحيانا يجيء ومعه وقية شاي أو رطل سكر أو شيء من
البن ، وتسأل موسى الأعرج عن الصداقة التي بينه وبين الزين فيقول لك وفي عينيه غشاوة من الدمع: " الزين حبابه عشرة الزين ود
حلال " . ويرى أهل البلد هذه الأعمال من الزين فيزداد عجبهم . لعله نبي االله الخضر لعله ملاك أنزله االله في هيكل آدمي زري
ليذكر عباده أن القلب الكبير قد يخفق حتى في الصدر اوف والسمت المضحك كصدر الزين وسمته .
وبعضهم يقول : " يضع سره في أضعف خلقه " . ولكن صوت الزين لا يلبث أن يرتفع مناديا : " يا أهل الغريق .. يا ناس الحلة . أنا
مكتول ". فتتحطم هذه الصورة ، وتعود صورة الزين التي يألفها الناس ويؤثرونها
كل هذا وفي الحي صبية حلوة ، وقورة المحيا ، غاضبة العينين ، تراقب الزين في عبثه ومزاحه وهزاره ، وجدته يوما في مجموعة من
النساء يضاحكهن كعادته ، فانتهرته قائلة : " ما تخلي الطرطشة والكلام الفارغ تمشي تشوف أشغالك ؟ " وحدجت النساء بعينيها
الجميلتين . سكت الزين عن الضحك وطأطأ رأسه حياء ثم أنسل بين النساء ومضى في سبيله ..
أنت تقرأ
عرس الزين
Romanceقالت حليمة بائعة اللبن لآمنة - وقد جاءت كعادا قبل شروق الشمس - وهي تكيل لها لبنا بقرش : "سمعت الخبر ؟ الزين مو داير يعرس " . وكاد الوعاء يسقط من يدي آمنة . واستغلت حليمة انشغالها بالنبأ فغشتها اللبن . كان فناء المدرسة " الوسطى " ساكنا خاويا وقت...