أغمضت عينيك امتثالاً لرغبتها ، و بينما أنت عالقٌ في الظلام لا تُبصر شيئاً ، سمعت صوتاً يناديك أن إفتح عينيك سريعاًفتحتهما ببطيء لتتكون أمامك صورة مشوشة ، لم تلبث إلا وقد اتضحت بعد ثوانٍ معدودة
صارت فرحتك فرحتان ، ذاك الطفل ذو الشعر الأشقر و عينين خضراوين ملؤهما الحنين.. لم تستطع أن تكفّ عن احتباس دموعك فأطلقت العنان لها
أي نعيم هو هذا ؟ والدتك و صديقك الراحل يأتيان إليك في آن واحد.. السعادة التي تغمر قلبك كانت كافيةً جداً لتغطي هذا الكوكب و تملأه بالنور ، كشمس تسطع على أرضٍ توشحها السواد ، فتعيد إليها ألوانها الزاهية.
و مازال يمسك بطرف ثوبها و يختبيء خلفها ، بينما يشيح بنظره عنك و يحاول اختلاس النظرات إليك بين الحين و الآخر.
- لا داعي لأن تكون مُحرجاً .. لقد اشتقت إليك ، جاك!
ظلت آخر جملة تتردد في أذنيه ، نظر إلى عينيك و في عينيه ألف دمعةٍ ، لقد طال الوقت و أنت مازلت تتنتظر ، كان غيرك ليفقد الأمل.. و إنك كنت على شفا حفرةٍ من الوقوع في اليأس
و لكن رؤيتك لكليهما باعدت بينك و بينه سبعين خريفاً أو أكثر!
بالتأكيد لم يتقدم في السن فقد رحل عن الدنيا و هو طفل صغير .. غيرر أنك لا تكترث للعمر الان فرؤيتها تبدو ضربا من المستحيلات لا يتحقق .. و لكن الاحلام قادرة على اختراق القوانين الطبيعية بخيالها الذي يبدو حقيقيا لدرجة التصديق !!
مرّ الوقت .. كانت عقارب الساعة تتابع سيرها بلا هوادة ؛ لذا لم تشعر بمضي الوقت و قد أعلنت تلك العقارب عن وقت الرحيل !!
- " اسفة سام ، لا أستطيع البقاء معك وقتا أطول .. سأعود مجددا .. أنا و جاك بالطبع "
هذا ما همست لك به في أذنيك فترقرقت الدموع في عينيك بلا شعور!! .. كطفل يبكي لانه يخشى الرجوع الى وحدته مجددا
- " اياك أن تظن انك ستعود وحيدا .. لأنك لم تكن كذلك منذ البداية أصلا !! .. عزيزي ، لقد كنت أراقبك انا و جاك طوال الوقت .. والدتك فخورة بك "
أردفت والدتك وهي تحيط وجهك بكفيها الناعمتين .
اقترب جاك و امسك بيدك بين يديه الصغيرتين الشبه شفافتين .. سالت من عينه دمعة أو اثنتان .. لا تدري لأنك لم تكن تركز في شيء سوى الاستمتاع بهذه اللحظات قدر المستطاع
-" أنا اسف سام ، سأعود في وقت لاحق .. احرص على أن تمتلك الكثير من الأصدقاء قبل المرة القادمة "
أومأت له ايجابيا ثم رحت تكفكف دموعك بأكمام قميصك .. طفل أنت ، حتى مع مرور السنين مازال هذا الطفل يعيش داخلك
استفقت من تلك الحمّى التي كادت تلتهم جسدك .. هل كنت تهذي ؟ هل كان كل ذلك بتأثير الحمى ؟؟
لا تعلم .. لكن ، حتى و ان كان هذيانا ستظل تحتفظ بهذه الذكرى بداخلك ..
تنظر قربك لتجد عمتك تسند رأسها الى سريرك و قد غلبها النوم .. تبتسم من أعماقك و تدثرها بغطائك الدافئ ثم تنهض من سريرك و كأن الألم لم يكن يوما موجودا
تتفاجأ بوالدك يجلس خارجا .. قد أغفله التفكير عن كونك هنا !! .. لوهلة بدى تائها بين هواجسه لا يعلم خلف أيها ينقاد !
لمح ظلك فالتفت اليك بنظرة خاطفة .. تبدلت علامات الحيرة التي كانت تعتريه تدريجيا لتصبح علامات فرح و سرور .. احتضنك بقوة حتى كادت أضلاعك تتكسر من فرط القوة ..
لا تستطيع أن تلومه فعاطفة الأبوة بداخله تطغى على ما دونها ..
جفف دموعه الجارية على وجنتيه ثم همس في اذنك و مازال يحتضنك بكل قوة :
- " أنا اسف سام ... لقد أخطأت في حقك يوم اتهمتك بالسرقة .. سامحني يا بني "
لابد أنها هي !! لا مجال للشك الان فأنت لم تكن تهذي .. والدتك من أخبرته بذلك فلا أحد سواها يفهمك !! .. الدموع تتراكم مجددا في عينيك و أنت أضعف من أن تصارعها مجددا .. تغلبك و تجري على وجنتيك .. تبادل والدك العناق ذاته بكل ما أوتيت من قوة
ها أنت مجددا .. ترتشف رشفتك الأخيرة من فنجان القهوة الذي كان الشاهد الوحيد على شريط الذكريات ... ربما انتشلتك مرارته من الانغماس في عالمك أكثر ، رغم أنك في كل مرة ترتشف منها كانت تعيدك للوراء أكثر فأكثر !!
عجيبة تلك القهوة !!
تمت بحمد الله ..
أنت تقرأ
أنتَ لستَ وحيداً
Short Storyإلى البعيدين عنا.. القريبين من قلوبنا إلى الذين سلبتهم منا الحياة و ألقت بهم في التراب.. إلى الذين تُركوا منكسرين فوق التراب أؤلئك الذين يبكون أحبتهم.. و يحتضنون سراباً يتلاشى مخلفاً رماداً ..و بعض الأنين هل ستبتسم لكم الحياة دون أن تسخر من...