+=+الفصــــــــل الخــــــــامس+=+

4.1K 104 3
                                    

وغاب نهار آخر , رحل نهار عمل آخر من حياة دينا , وتركها منهوكة القوى , تبحث عن السكون بعد ساعات الضجيج , وعن فيء الراحة بعد قيظ التعب . كانت تستعد لترك غرفتها , عندما فتح السيد انطوني باب غرفته قائلا :
- سأوصلك الى منزل السيدة ميلغروف يا دينا .
- افضل الذهاب وحدي . شكرا لك يا سيدي .
- ستكون رحلتك مرهقة , فالحافلات مزدحمة في هذه الساعة .
- سأركب سيارة اجرة .
- طيب هل طلبت واحدة ؟
- كنت على وشك ان افعل .
- استسغت الكذب سلاحا لمقاومتي , منذ بدأت اهتم بك . لكن شيئا لن يثنيني عما عزمت عليه . هيا بنا .
- جردتني حتى من قدرتي على الرفض , ولا املك الآن الا الانصياع للأوامر , لأنك سيدي في العمل .
قهقه انطوني مورغان ضاحكا :
- دينا ... عزيزتي ... لم اتوقع منك مثل هذا الاستسلام السريع . يظهر انك تحاولين التخلص من الحاحي , لكن هذا التخاذل لن ينفعك في حياتك المستقبلية , صدقيني .
- مادمت تعرف انني احاول تحطيم قيود الحاحك وسخريتك , فلماذا لا تدعني وشأني ؟
- لا استطيع . لأنك تحبين ما افعل .
- ماذا تقصد يا سيد مورغان .
- اقصد يا عزيزتي انك تحبين الحاحي , وملاحقتي , وقذائفي الكلامية .
- هل فقدت عقلك ؟ هل جننت يا سيدي ؟ ما هذا الذي أسمع ؟
تتهمني في البداية بالضعف أمام راسل , ثم تتجرأ وتؤكد انني استسيغ مضايقتك لي . هذا كثير . كثير جدا يا حضرة المدير .
اشعل انطوني لفافة تبغ , قبل ان يقول :
- الفرق شاسع بيني وبين راسل , فهو يهملك , وانا الاحقك .
كادت دينا تنفجر غيضا :
- لقد اعتذر راسل عن بعض ارتباطاتنا لانشغاله , يا سيد انطوني , وقد تفهمت الوضع تماما .
- وانعكس تفهمك للوضع على الطباعة السيئة لرسائلي بعد اعتذاره الأخير , اليس كذلك ؟
- لا اعرف لماذا تتعمد ت****ي واذلالي , لكنني اؤكد لك قدرتي على حل مشاكلي مع راسل دون أي تدخل خارجي , هذا أولا , وثانيا اسمح لي ان ارفض الذهاب معك الى بيت السيدة ميلغروف .
- اعتراضك مرفوض . هيا بنا .
- لا اعتقد انك سترغمني على الذهاب يا سيدي .
- بلى , سأجبرك عليه حتى لو جعلت سيرتك مضغة في افواه الموظفين . هيا يا فتاتي ... هيا .
- استسلمت للواقع . فنزلت الدرجات المؤدية الى الباب الرئيسي , وراحت تمخر عباب البحر البشري , الذي كانت امواجه تتابع على المؤسسة . فأحست بنظرات الفضول تلاحقها , فأسرعت تحتمي بسيارة انطوني السوداء , وبالصمت طوال الطريق .
تركها انطوني تتمتع بحرية السكوت , حتى وصلا الى المنزل المطلوب . تأمله انطوني قبل ان يقول :
- البيت ضخم , فخم . لكنني متأكد من ان اصحابه يثقلونك بأصفاد التصنع .
حاولت دينا الخروج من السيارة , لكنها لم تستطع ذلك الا بمساعدة انطوني الذي فتح لها الباب قائلا :
- اتمنى لك قضاء امسية سعيدة . الى اللقاء .
- سنلتقي غدا في المؤسسة .
- لا . سأتناول عشائي وحيدا في المدينة , وارتاح قليلا في المكتب , ثم آتي لأعيدك الى البيت .
- سيعيدني راسل , شكرا لك .
- تذكري ان راسل خارج المدينة , وسيعود الليلة متأخرا .
- لا اريدك ان تعود . لا اريدك ان تعود . سأطلب سيارة اجرة .
اتخذت دينا طريقها نحو الباب الرئيسي , واختفى انطوني بسيارته عند المنعطف .
رحبت بها السيدة ميلغروف , وسألتها :
- من كان هذا يا عزيزتي ؟
- السيد انطوني مورغان , مديري .
- ااتى لزيارة صديق له في المنطقة ؟
- لا . أراد انقاذي من زحمة المواصلات , فأوصلني مشكورا .
دخلتا غرفة النوم , حيث قالت لها السيدة ميلغروف :
- يسرني قدومك هذا المساء يا دينا .
ازعجها تلطف السيدة ميلغروف : ( يارب , ماذا يخبىء لي سكون الليل من اسرار ؟ ) .
جليت دينا تتناول عشاءها : ( كل مايحيط بي مرتب , حتى اصناف الطعام تم اختيارها بعناية . اين منها ليلة امس , وما اتصفت به من بساطة . اشعر برمال التصنع تبتلعني . اكاد اختنق . كل ما حولي مصطنع ... مصطنع ... مصطنع ) .
شربتا القهوة بعد العشاء في غرفة الجلوس , امام مدفأة كهربائية .
قالت السيدة ميلغروف :
انني اكره المدافىء الحجرية , لأن اشعالها شاق جدا . من دواعي سروري التعرف اليك والتقرب منك اكثر يا دينا , بعدما جمعت الأقدار بينك وبين راسل . لم تتعد جميع علاقاته السابقة حدود الاعجاب , وقد استطعت اقناعه بأن كل ما مر به سيعينه على اختيار الشريكة الأفضل لحياته . لذلك طلبت منه عدم التعجل في اعلان أي ارتباط رسمي بينكما , لكنني سعيدة جدا باطلالتك في افق حياته , واعتقد انه بقليل من التوجيه , ستكونين الزوجة المثالية لابني , خاصة اذا قبلت تغيير ... اسمك .
تطلعت دينا نحوها عاقدة الحاجبين :
- ولماذا اغيره يا سيدتي ؟ الا يعجبك ؟
- انه اسم ينقصه البريق يا عزيزتي .
- لكنني اجده جميلا جدا .
- قد يكون جميلا , غير انه لا يناسب زوجة ...
- اكملت دينا :
- لا يناسب زوجة الطامح الى منصب مستشار الملكة , اليس كذلك ؟
- نعم , بالفعل . لذلك أتصور انك لن تمانعي اذا ناديتك ديانا من الآن فصاعدا . وقد وافق راسل على اقتراحي .
- معنى هذا انك اخبرته بما تريدين اجراءه من تعديلات .
- نعم . لقد فعلت .
- ان ماتطلبينه يا سيدة ميلغروف هو المستحيل بعينه , لأنني معجبة باسمي , ولا أود تغييره . دعينا نغير الموضوع من فضلك .
- لم انوي ازعاجك يا دينا . واعتقد ان اقتراحي هو الأفضل لك.
- هل هو الأفضل لي ام لأبنك يا سيدة ميلغروف ؟
- لا افهم سببا لغضبك يا دينا .
- وانا لا افهم سببا لهذا التمادي من جهتك يا سيدتي .
- لم اقصد ايلامك يا عزيزتي , فأنت زوجة ابني .
- لست زوجة ابنك يا سيدة ميلغروف .
- كل آت قريب , يا عزيزتي .
- تذكري ان الخطبة لم تعلن رسميا بعد يا عزيزتي .
- ألم نتفاهم على تأجيلها في الوقت الحاضر ؟
- نعم تفاهمنا على اعفاء ابنك من جميع المسؤوليات والروابط حتى يستطيع تقرير مصيره على مهل , وعلي ان ابقى انا سجينة الارتباط به الى ما شاء الله , اليس كذلك ؟ اجيبيني .
- لا اجد سببا لهذا الانزعاج كله يا دينا ... صدقيني . هل انت بخير ؟ هل ...
- انني بألف خير . واعتقد ان من حقيالتروي قبل الاقدام على الزواج , مثل راسل تماما .
- لا اعتقد انك في كامل وعيك يا دينا .
- ثقي انني أعي كل كلمة أقولها .
- هل حصل بينكما أي سوء تفاهم في الفترة الأخيرة ؟ لماذا لم يخبرني ؟
- ماذا تقولين ؟
- اعتاد راسل الا يخفي عني شيئا منذ نعومة اظفاره .
- لا شك في انك تبالغين يا سيدة ميلغروف .
- انني لا أبالغ . انها الحقيقة .
- هل اخبرك اذا , انه شرب قدحا من القهوة مع كليو ديفيس في احد المطاعم ؟
- من كليو هذه ؟ لا احسبك تتكلمين عن الفتاة التي تعمل في المؤسسة ؟
- بلى . انها الفتاة المسؤولة عن قسم التجميل الذي يحمل اسم كليوباترا . ما رايك بهذا الاسم البراق يا سيدتي ؟
- لم اعد افهم شيئا . لم اعد افهم أي شيء . لكنني عرفت السبب الكامن وراء ثورتك . احكي لي ما حدث بالتفصيل . من اخبرك بهذا كله ؟
- راسل هو الذي اخبرني يا سيدتي الكريمة .
- اتمزحين يا دينا ؟
- لا . ابدا ... زارنا في البيت ليخبرني انه خرج مع كليو لشرب قدح من القهوة , بعد قبولي دعوة مماثلة من مديري انطوني مورغان , الذي يحب اسم " دينا " كثيرا .
- لماذا قبلت دعوة المدير يا دينا ؟
- لأن التفحص قبل الانتقاء من ابسط حقوقي يا سيدة ميلغروف .
- لكن التوقيت الذي اخترته للتفحص والانتقاء خاطىء يا ابنتي .
- ولماذا يا سيدتي ؟
- لأن جيني خطيبة راسل السابقة عادت الى المدينة .
- وماذا في ذلك ؟ ما فات قد مات يا سيدة ميلغروف . هل فقدت الثقة بقدرة الحب على تخطي العقبات ؟
- لقد احب راسل جينا حبا جما .
استمعت دينا الى همس افكارها : ( لابد ان حب راسل الجنوني لخطيبته الأولى هو الذي اقتلع جذور الرضى عنها من قلب والدته انها انانية في حبها لابنها . وهذا يثبت وجود خيط رفيع يفصل بين الحب الحقيقي والرغبة في التملك ) .
جابهت دينا السيدة ميلغروف بثقة :
- اكره ان ينافسني احد على قلب راسل , لذلك احمد الله على تأجيلنا اعلان الخطبة .
- ان جيني كابوس مزعج , عليكما الخلاص منه , ولو كنت تعرفينها لاكتشفت منبع قلقي .
- يؤكد كلامك انها ما زالت مليكة على عرش قلبه , وهذا يتركني ريشة في مهب ريح الشك بعواطفه , وصدق مشاعره . احتاج الى رجل يحميني ويرعاني , يحبني ويحرص علي . لذلك علي التأكد من احاسيسي قبل السير على درب الرباط المقدس .
ولف دينا ضباب الأفكار : ( هل احب راسل ؟ نعم احبه . لكنني اتوق الى ان يبقى حبنا متوجا بالعزة , مزدانا بالكرامة . يكفي السيدة ميلغروف ما قاسته اليوم مني . حان وقت الرحيل ) .
تركت دينا مقعدها قائلة :
- هل يمكنني استعمال الهاتف يا سيدة ميلغروف ؟
لم تمانع والدة راسل , فرفعت دينا السماعة , وطلبت رقم انطوني . عندما تناهى الى اسماعها , خاطبته بلطف ونعومة :
- اهلا انطوني , ايمكنك ان تأتي لاصطحابي ؟ لقد انتهت الزيارة .
لم يتوقع انطوني هذا فتردد قليلا قبل ان يقول :
- يسرني ان اعود بك الى البيت يا عزيزتي . لكن ما الذي افسد امسيتك ؟
تهربت دينا من الجواب واردفت :
- سأنتظرك على احر من الجمر , مع السلامة .
حين وصل انطوني , قامت دينا بتعريفه الى السيدة ميلغروف التي دهشت لأناقته , ولباقته , وحسن تصرفه .
مضت دقائق , خرجت بعدها دينا لتستقل السيارة مع انطوني قال لها :
- اعتقد اننا اذهلنا السيدة ميلغروف بتصرفاتنا .
- لقد انستني هذه السيدة معنى الشفقة .
- ما الذي حدث بينكما يا دينا ؟
- اسمح لي ان اعتذر أولا عما سببته لك من ازعاج .
- لا اجد أية حاجة الى الاعتذار .
تلاشت في حضن افكارها: ( كنت واحة للراحة بعد ساعات التعب يا سيدي . كنت أول الغيث بعد طول قحط . كنت منقذي يا سيدي ) .
غير انطوني مورغان وجهة سيره , فاستغربت دينا . قال لها :
- سأريك ملاعب طفولتي , والبقعة التي ألجأ الى احضانها كلما كشرت لي الحياة عن انيابها .
اوقف انطوني السيارة في منطقة منعزلة , ومشى الاثنان الهوينى عبر طريق ترابية , حتى وصلا الى هضبة ارتاحت دينا بالقرب من قمتها , تاركة النسيم العليل يسافر فوق صفحة وجهها .
همس انطوني متسائلا :
- الا تريدين اخباري بما حدث الليلة يا دينا ؟
سبقت دموعها الكلمات , فتركها تسيل حارة مدرارة على مسارب خديها . احاطت ذراع انطوني بكتفها , وكأنها تحميها من ضعفها ثم سمعته يقول :
- توقعت ان يحدث هذا منذ البداية .
احست دينا بتفهم انطوني لها , وتعاطفه معها , لكنها خافت من ضعفها , فاعترفت حين احتضن يده :
- اكره ان ابكي ... اكره الضعف ... صدقني .
- ليست الموع الحقيقية دليل ضعف , انها لغة بليغة يعبر الناس عن مكنونات قلوبهم .
- فقدت الليلة الاحساس بالكرامة وعزة النفس , لم تجد التضحيات والتنازلات نفعا ... اعتقدت انك مجنون يوم حاولت توعيتي . استميحك العذر يا سيدي . فأنا لا أعي ما اقول .
- لا تعتذري يا دينا . اتركي نفسك على سجيتها . نعم , اذكر انني حاولت تنبيهك لاخطائك , فطلبت مني عدم التدخل .
- تحول مديري الى نبع للحنان . انني اعيش حلنا جميلا , رائعا .
- حناني ليس حلما . تناسي انني مديرك , واريحي نفسك من اعبائها.
- انت وحدك الذي يستطيع مساعدتي .
- وكيف استطيع ذلك يا دينا ؟
- ساعدني في وضع نهاية سعيدة لقصتي ... أرجوك .
- عن اية قصة تتحدثين ؟
- اليس حبي لراسل قصة ؟ آسفة اذا كنت قد ازعجتك برجائي لكنني ...
- لا تتعبي نفسك بالشرح والتفصيل يا دينا . يسعدني ان امد لك يد المساعدة دائما , شرط ان تناديني انطوني , كما يناديني الأصدقاء.
- لكنني اعتدت استعمال " السيد انطوني " في الفترة الأخيرة .
- الإرادة تصنع المعجزات , وتغير العادات , فلا تيأسي . اكثري من مناداتي طوني امام راسل وامه , لأنني اريد لجحيم الشك ان يعذبهما .
- وماذا عن الموظفين في المؤسسة ؟ الا يهمك امرهم ؟ الا تخيفك الشائعات التي يمكن ان يثيروها ؟
- انني اقوى من أي شائعة , فلا تخافي , ولا تحزني . ارمي همومك جانبا , تعالي الى قمة الهضبة لنمتع انفسنا بما تطل عليه من مناظر خلابة .
امتثلت لأوامره , وأحست عند قمة الهضبة بقربه , وعندما احاطها بذراعيه , دفنت رأسها المتعب في غياهب صدره . استمتعت بدفئه وحنانه , انتشت بسماع نبضات قلبه وراحت كل ذرة في كيانها كأنها تردد :
لو كان قلبي معي ما اخترت غيركم
ولا رضيت سواكم في الهوى بدلا
اخافها اندفاعها : ( لا ... لا ... لا يمكن ان يحدث هذا . ان انطوني مورغان يشاركني احاسيسي , ويشعر بمشاعري , لا اكثر . انه يشفق علي . نعم انه يشفق علي فقط ) .
حاولت دفعه عنها قائلة :
- لا حاجة الى بدء التمثيل منذ الآن . يكفينا ان نتقن ادوارنا امام راسل ووالدته . لست في حاجة الى الشفقة .
احتضن وجهها بين يديه وقال ضاحكا :
- دينا ... يا عزيزتي ... لم يكن احتضاني لك رأفة بك , او شفقة عليك . اردت فقط ان اسعد بقربك .
ضمها الى صدره ثانية وقال :
- اعتقد ان وقت عودتنا قد حان , فهيا بنا يا عزيزتي ... هيا .

روايــات ؏ـبـــيــر / الدخــانحيث تعيش القصص. اكتشف الآن