- همسُ الموتى -

11.7K 265 41
                                    

مازال الدمار كما هو في الأرجاء، دمار شامل أصاب تلك المدينة التي كانت في وقت ما مزهرة، لتصبح الآن مجرّد أنقاض.
ولكن، ذلك الدمار الماديّ لم يكن له قيمة مقارنة بالكارثة التي حلّت بقلوب ساكنيها،
فضلاً عن من استشهدوا جرّاء القصف الجوّي، أو من خلال الاجتياحات او الإبادات الجماعية، كان مايزال هناك بضع عائلات كُتِب لها الحياة، و مفهوم الحياة هنا هو الرعب!
هم لم يموتوا إذاً ما ينتظرهم أسوء.
وللأسف، نحن كنّا إحدى ضحايا هذه الحرب و ما كان ذنبنا سوى أننا تعلّقنا بمدينتنا و رفضنا الرحيل عنها فراراً بحياتنا، بل بقينا فيها لأننا نعرف أن الموت ليس البقاء هنا، الموت الحقيقي هو بالرحيل!
و هكذا ابتدأت قصتي، في ذلك اليوم الذي كنا فيه نجلس حول المدفأة، نسمع أصوات اقتحاماتٍ في الخارج لبعض البيوت. و كنّا ننتظر ولم ننبس ببنت شفة؛ لأننا نعرف أنهم سيكسرون الباب ويدخلون علينا عاجلاً أم آجلاً، الآن أو بعد بضعة ساعات، أو أيام، لا فرق .
نظرت لوالداي، لأخي الصغير الذي لم يتجاوز الثانية عشرة، كانوا باهتي الملامح، ينظرون الى اللاشيء بنظرة فارغة ولكنها تحمل كل معاني الخوف.

وكما توقعنا تماما، وبعد ساعتين ونصف، سمعنا صوت كسر الباب، فهبّ أبي واقفا وطلب منا البقاء هناك في الغرفة دون أن نصدر أي صوت.
و مع ترجيات أمي بأن لا يخرج إليهم ولكنه رفض.
لبثنا في الغرفة ما يقارب الدقيقتين وكان الصراخ بين ابي والباقي يعلو
ثم انفتح الباب علينا، و كان أبي الذي طلب منا اللحاق به بلا خوف لأنه سيكون بجانبنا
ولكن طلبه كان خيالياً، أن لا نخاف؟ من هؤلاء الوحوش؟! لا أظن!
استقريت خلف أبي حين توقف، ورفعت رأسي لأرى خمسة رجال ... أو أقصد خمسة جدران!! يحملون بندقياتهم باحترافية، قال القائد لوالدي أننا مع الكتلة التي تحارب ضدهم وأننا نساعدهم و لذا حكموا علينا بالموت،
هكذا ببساطة؟ وكأنّنا أمامه قطيع خراف؟!

كانوا كاذبين، يا لكذبهم! لأننا لا عمل لنا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.
أردت أن أبصق في وجهه! أن أركله وأحشر بندقيته في حنجرته، لم أكن خائفة، كنت فقط أشعر بالخوف على عائلتي، على أخي الصغير!
ولكن هذا الحكم لم يدم طويلا، حتى استقرّت عيناه علي فتحولت نظراته للعانة حقيرة! فعرف أبي وعرفت وعرف جميع من في الغرفة بما كان يفكر!
أجل... فهذا يحدث دائما مع العوائل الذين في مثل حالنا، يمتلكون ابنة او عدة بنات صغيرات : يكنّ ضحايا هذه الحرب، ويغادرن البلاد، إن لم يتم القضاء عليهن، حوامل، من شخص مجهول!
قال أنه لن يتركني أموت قبل أن يستفيدوا مني بعد رحلة القتل التي قاموا بها، رحلة القتل المتعبة! و بالمقابل كانت نظرات أبي تكاد تقتلعه من مكانه!
و عندما أراد الاعتراض أوقفته بيدي.. فهم سيقتلونه إن قال كلمة " لا" لهم!
و بالمقابل أنا التي نطقتها " أقتلكم ! لن تقتربوا مني! سأقتلكم! "

فضحك ضحكة قبيحة جدا، قهقه بصوتٍ عالٍ وهو يخاطب أحد أفراد فريقه : هل سمعت آدم؟! تريد قتلنا!
ثم تحول وجهه للقسوة وقال : انتي... كغيركِ!
نظر للذي خاطبه : هيا، أتمم عملك معها لكي ننتهي بسرعة من هذا البيت!
حوّلت نظري للذي أمره ، كان جنديا ضخما.. حتى أنه أطول من القائد.. عيناه داكنتان واسعتان وشعره أسود.
لم ينظر لي بل تبادل النظرات مع قائده، ولكنني لم أهتم! كل ما يهمني هو أنني سأموت قبل أن أسمح له!
كان والدي يجادلهم بحدة. لم يكن سيسمح أبدا بانتهاك عرضه!
مهلا... ماذا لو قتلت نفسي؟ هذا لا يعدّ انتحاراً صحيح!؟ فأنا أحمي عِرضي في نهاية الأمر.
رأيت أبي يصرخ عليهم، كأنه يقول لهم اقتلوني لا ضير ولكن لا تلمسوها!
نعم... و...و اخترقت رصاصة صدره، أمام أعيننا، أمام عينيّ أخي الصغير!
لم أبد أي ردة فعل، وقفت جامدة كأنني في حلم، أرى والدي على الأرض ودماءه بدأت تسيل. كأن كل ما في الغرفة أصبح أشباحاً.

الوجه الآخر 1 /مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن