مع شروق شمس يوم جديد على ديار خزاعة التي تدب الحياة في أوصالها و نشاط رجالها يشعل نهارها بالحماس و الطمأنينة اللذان ترسخا في قلوبهم التي إعتنقت الإسلام حديثاً ، ليقف على مشارفها نفر من الرجال على صهوة جيادهم ليعلن أحدهم قائلاً :
- لقد وصلنا ! .. هذه ديار خزاعة .
أجاب صاحبه مؤكداً ما تراه عيناه :
- و يبدو أن بني عنبر من تميم حلو في جوار الديار .
ثم أرخوا اللجام منطلقين بهدوء إلى داخل الديار مقلبين أعينهم بين الأبنية البسيطة المنخفضة و خيامها البدوية و بين رجالها الأشداء الذين يجوبون أرجائها بحماس منشغلين بأعمالهم و محيون بعضهم بعبارات السلام بود و تسامح ، غير مدركين لما يحدث بداخل إحدى تلك الخيام إثر وصولهم ، إذ علا صوت أحد قادة بني عنبر قائلاً بغضب :
- و هل هانت النفوس إلى هذا الحد ؟
لم يجبه أحد أعيانه فتابع :
- نعطي أموالنا هكذا من دون مقابل !
صمت قليلاً ليصيح مغادرا الخيمة بغضب قائلاً :
- لن أسمح بمرور الصدقات ، حتى لو كان في هذا هلاكي !
خرج مسرع الخطى و قد لحقه أتباعه من قومه بصمت مترقبون ما سيفعله قائدهم ، ليقف أمام نصر بن سفيان - أمين الصدقات - و يهتف قائلاً :
- ما الذي تظن نفسك فاعله ؟
أجاب نصر من فوره :
- نجمع الصدقات لرسول الله ﷺ .
إشتعل الغيظ في قلبه و قال :
- و الله لا يصل إلى باع منها أبداً !
و أسرع نحو الأموال من بهائم و بقول آمراً رجاله بالإستيلاء عليها ، في حين أوقف نصر بن سفيان رجال بني خزاعة من إشهار سيوفهم أو إعتراض طريقهم فحملوها و فروا مسرعين كأن وحشا كاسراً سيفتك بهم ، هتف أحد الرجال قائلاً :
- لو تركتنا لأعدنا صدقتنا منهم .
فأجاب نصر و هو يراقبهم مبتعدين بأموال صدقات بني خزاعة قائلاً :
- لن أتجاوز أمر رسول الله ﷺ .
ثم إستدار محدثاً رفاقه :
- هيا بنا لنخبره .
فركبوا صهو جوادهم و إنطلقوا يخبرون النبي ﷺ بما كان من بني عنبر ، فما كان منه ﷺ إلا أن أرسل إليهم إبن حسن على رأس نفر من الرجال ليعيدوا صدقات خزاعة ، و لكن بنو عنبر كانوا يعلمون تماماً حجم المصيبة التي أوقعوا أنفسهم فيها فعند وصول إبن حسن إلى ديار خزاعة لم يجد لهم أثراً، فقد شدوا رحالهم و فروا خوفاً من إنقلاب جيرانهم الخزاعيون عليهم و خوفهم الأشد كان من غضب الرسول ﷺ . و كان لما يفرون منه نصيب ، فقد لحقهم إبن حسن مسترجعا صدقات المسلمين و قد أسر منهم من أسر عائداً بهم إلى رسول الله ﷺ .فإجتمع قادة تميم يتشاوروا فيما بينهم في أمر التميميين من بني عنبر الذين أسرهم رسول الله ﷺ و كان من بين سادتهم النفر القليل الذي أسلم في الوفد الذي لقي النبي ﷺ منذ بضعة أيام و أغلبهم لا زال على دينه القديم ، فهتف أحدهم :
- عار علينا نحن بني تميم نقعد ها هنا نتجادل و بعض رجالنا و نسائنا أسرى عند محمد !
فتسأل أحد قادة تميم :
- و ماذا عسانا نفعل بعد ما خذلنا بنو عنبر بفعلتهم تلك ؟
هنا خرج بطلنا القعقاع من صمته ليقول بكلمات من ذهب :
- لنرسل وفد صلح لرسول الله ﷺ ، فبرغم حجم الخطأ الذي إقترفوه فهم في نهاية الأمر تميميين من بنو عشيرتنا .
فوافق القوم من فورهم و لم يلبثوا إلا و قد شدوا الرحال مسرعين إلى يثرب ، و كما هو حال مدينة رسول الله ﷺ فقد طغى ضوء إيمانها على ظلمة قلوبهم المشركة آخذاً في التسلل برفق إلى أعماقهم لينقشع بعدها الضباب المسيطر على حياتهم عند لقائهم بالحبيب المصطفى ﷺ ، فيأسرهم بجماله و حسن خلقه و كرم ضيافته و تسامحه فلم يتحركوا خطوة أخرى إلا و قد أعلن جميع سادة تميم إسلامهم ، فقد حملت مشورة بطلنا الذكية على فض نزاع كاد ليتصاعد إلى حرب دامية لشدة إعتزاز قبيلته بأنفسهم و ليس هذا فحسب بل من الله عليه و أسلم جميع أفراد بنو تميم ، ليسجل القعقاع بن عمرو بفضل الله عليه أول نقطة رابحة له في صفحة إسلامه .
أنت تقرأ
القعقاع بن عمرو التميمي
Historical Fiction" لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل " - أبو بكر الصديق بعد أن إندثرت قصص أبطالنا المسلمين تحت رماد زيف الغرب و ظهرت شخصيات لا تمت للواقع بصلة و يسعى أطفالنا و شبابنا للإقتداء بهم ، فقررت إعادة تسليط الضوء على مكانه الصحيح من خلال نافذتي الصغيرة...