♦2♦

112 11 1
                                    

*أنت في الدنيا على سفر*

فلو كانت الدنيا تحلو للإقامة لما كنت اليوم على ظهرها لتكون غدًا في بطنها، وتصير أشلاؤك وعظامك من جنسها ترابًا يُحثا، وطيناً يرمى! قال تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى( [طه: 55].

وقال أبو الدرداء: ابن آدم! طأ الأرض بقدمك؛ فإنها عن قليل تكون قبرك.

وصدق في ذلك الشاعر حيث يقول:

خفف الوطء ما أظن أديم

الأرض إلا من هذه الأجساد

أين من عاشوا فيها قبلك؟ أين من ملكوا خيرها؟ ونالوا متاعها..

فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم

محاها مجال الريح بعدك والقطر

على ذا مروا أجمعون وهكذا

يمرون حتى يستردهم الحشر

قام أبو ذر الغفاري عند الكعبة فقال: يا أيها الناس أنا جندب الغفاري هلموا إلى الأخ الناصح الشفيق، فاكتنفه الناس، فقال: أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفرًا أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويبلغه؟ قالوا: بلى. قال: فإن سفر طريق يوم القيامة أبعد مما ترون، فخذوا ما يصلحكم. قالوا: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يومًا شديدًا حره لطول النشور، وصلوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور.

وقال عمر بن عبد العزيز: إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.

ولابن القيم رحمه الله كلام نفيس في هذا الباب يقول: من بذل وسعه في التفكير التام، علم أن هذه الدار رحلة فجمع للسفر رَحْلَه، وعلم أن مبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطون الأمهات، ثم إلى الدنيا، ثم إلى القبر، ثم إلى الحشر، ثم إلى دار الإقامة الأبدية؛ فدار الإقامة هي دار السلام من جميع الآفات، وهي دار الخلود، والعدو سباتًا إلى دار الدنيا فنجتهد في فكاك أسرنا، ثم في حث السير إلى الوصول إلى دارنا الأولى، وليعلم أن مقدار السير في الدنيا يسيرٌ، ويقطع بالأنفاس ويسير بالإنسان سير السفينة لا يحس بسيرها وهو جالس فيها.

ولابد له في سفرة من زاد، ولا زاد إلى الآخرة إلا بالتقوى، فلابد من تعب الشخص والتصبر على مرارة التقوى؛ لئلا يقول وقت السير: رب ارجعون. فيقال: كلا.

فليتنبه الغافل من كسل مسيره؛ فإن الله تعالى يريه في قطع مسافة سفره آيات يرسلها تخويفًا لعباده؛ لئلا يميلوا عن طريقهم المستقيم ونهجهم القويم؛ فمن مالت به راحلته عن طريق الاستقامة، فرأى ما يخاف منه، فليرغب إلى الله بالرجوع إليه عما ارتكبه من السبل، فيتوب من معصيته». [عدة الصابرين، ص330].

أخي.. إذا علمت أنك مسافر إلى الله، وأنك إليه تساق سوقًا، فلا تنس عدة سفرك، ولا تله عن زاد رحيلك، لا سيما وأنت لا تدري متى تقف بك الراحلة، وينادى عليك للرحيل (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( [لقمان: 34].

يقول ابن الجوزي: يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدًا، ولا يغتر بالشباب والصحة؛ فإن أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت الشباب.
وهذا رسول الله ( يوجز لك منهج السفر، وكيف يجب أن يكون حالك مع الحياة الدنيا فيقول: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» [رواه البخاري].

يقول ابن عمر رضي الله عنهما وهو الذي روى هذا الحديث: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» [رواه البخاري].

وكان مجاهد رحمه الله يقول: ما من يوم إلا يقول: ابن آدم! قد دخلت عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم؛ فإنه ظل زائل، ولا يفتننك متاعه فعما قريب سيبلى، واعلم أنك في سفر إلى دار قرار!

حدد موقعك حيث تعيش القصص. اكتشف الآن