الفصل الاول (غرباء أم رفقاء؟)

24.2K 313 15
                                    

وصل إلى مشارف المدينة بعد مضي الهزيع الأول من اليل. كان المكان مألوفا تماما له و كان قادرا على استحضار خطته بأصغر تفاصيلها. لكنه رغم ذلك كان قلقا متوجسا. فلو حاد أي شيء عن مساره فمن الممكن أن يضيع تعب أشهر من التخطيط و معه سنوات من الصبر و المعاناة. اتجه نحو الخان الذي اعتاد أن ينزل فيه.كان مكانا متوسط الحال والخدمة، معظم رواده من التجار الصغار و عابري السبيل. خاطب نفسه قائلا :
- أول شيء أضع الجواد في الإسطبل ثم أبحث لي عن فتاة مناسبة.
ترجل عن صهوة جواده و ربت على عنقه قائلا : 
- الآن تبدأ رحلتنا بحق يا صاحبي
غادر الخان ليسير في طريق رصّت على جانبيه بيوت غير متناسقة ، في آخره كان هناك مكان متسع و مضيء يتصاعد منه صخب شديد ما بين أصوات الرجال و صهيل خيولهم.
وصل إلى ساحة واسعة تتوسطها حانة كبيرة. كان المكان مجمعا لممارسة جميع أنواع الموبقات من شراب و ميسر و بغاء و حتى القتل أحيانا. تمتم لنفسه بسخرية :
- المكان المنشود لذوي الشرف المفقود
و لعن السبب الذي جعله يتواجد في هكذا مكان و لعن من وراء السبب. تذكرعندما قابل الرجل الثمل في المرة لأخيرة لتي كان فيها هنا و أخبره أن هذا هو أكثر مكان تتجمع فيه بائعات المتعة. شاهد العديد من الفتيات ذوات الضحكات الرقيعة و النظرات الخاوية. تنقلت عيناه بينهن بسرعة و ازداد شعوره بالتوتر حين وجد جميعهن مشغولات. تأفف قائلا :
- يبدو أنني وصلت متأخرا. لم يدر في خلدي أن ساقِطَات هذه المدينة مبكرات في العمل.
أسرع خارجا من جو الخمارة الخانق و قرر أن يمكث أمام المبنى و يصطاد فتاة من غير المبكرات. كان قد بدأ يتململ من الانتظار حين رأى بغيته تأتي من بعيد بخطوات متسارعة. بدت امرأة معتدلة الطول ، ترتدي لباسا فضفاضا. لاحظ أنها كثيرة الالتفات كأنما تبحث عن أحدهم. ما إن راودته هذه الفكرة حتى أسرع يعترض طريقها قبل أن يقتنصها أحد غيره.
- أيتها الفتاة، ناداها بصوت جهوري و هو يسد الطريق أمامها.
أجفلت المرأة و تراجعت خطوتين إلى الوراء. تأملت ثيابه البسيطة ثم رفعت عينيها إلي وجهه ، كان قد أرخى عمامته فتسربلت ملامحه بالظلال. دلتها هيئته على أنه من تجار المناطق المجاورة، غير أن شكل نعليه أثار اهتمامها ذلك لأنها لم تشاهد مثلهما في حياتها. استنتجت أنه ليس كما يدعي، إنه ليس مجرد تاجر بسيط، فلربما كان لصا ، قاطع طريق أو قاتلا مأجورا. أيقظ الخاطر الأخير مخاوف كامنة داخلها فتراجعت خطوة أخرى إلى الخلف و سألته بلهجة متعالية تخفي توترها :
- ما حاجتك أيها الغريب؟
"الغريب" كره الكلمة كما كره الطريقة التي قالتها بها. " فاجِرَة و متكبرة" هكذا فكر في نفسه. لابد أنها حكمت عليه من بساطة مظهره و ظنت أنه لن يستطيع أن يدفع لها ما تريد. قال لها ببطء :
- أنت تعلمين تماما ما أريده منك.
ازداد قلقها و توجسها منه : من هو؟ من الذي أرسله خلفها؟ هل رآها أحدهم و هي تغادر؟ ولكن كيف عرفها و خمارها يخفي معظم وجهها، لا شك أنها مخطئة.
- ليس لدى من هي مثلي ما قد يريده من هو مثلك.
شعر بكل ذرة احتقار تلونت بها كلماتها فأجابها باحتقار مماثل: 
- لا تعتقدي أن البضاعة التي تبيعينها أغلي من أن أشتريها. صعدها بنظره ثم أضاف : 
- أنت تبيعين أرخص بضاعة على وجه الأرض. 
رددت وراءه بعدم فهم :
- البضاعة التي أبيعها هي أرخص بضاعة علي وجه الأرض ؟!
مال نحوها قليلا و أضاف باشمئزاز :
- و كلما زاد عدد المشترين كلما ازدادت رخصا. 
"ما الذي يقصده هذا المأفون تساءلت في سرها. و في إجابة سريعة على تساؤلها قال و هو يعقد ذراعيه على صدره : 
- عموما لا حاجة لي بجسدك، ما أريده منك هو خدمة أخرى و تأكدي أنك ستنالين أجرك المعتاد و ربما يزيد.
شحب وجهها من الغضب تحت خمارها و شدت على يديها بقوة و قالت له بصوت يرتجف من الغيظ : أنا لست ما تظن و كما سبق و أخبرتك لا شيء لدي لمن هو مثلك. و حرصت على أن تضع كل احتقار الدنيا في الكلمة الأخيرة.
اقترب منها و قال لها بتعال : إن لم تكوني بائعة هوى فأنا واثق أنك لست بذات حسب أو نسب فأي ديوث هو أبوك أو زوجك حتى يتركك تسيرين في مكان كهذا في ساعة كهذه.
لم يكد يكمل كلماته حتى فوجئ بصفعة منها ارتج لها خده الأيسر. ظل واضعا يده على خده للحظات ذاهلا غير مصدق لما حصل. بينما استغلت هي شلل فكره فأخذت في الابتعاد و لكن هيهات فما إن استعاد رشده حتى لحقها في خطوتين و قام بلوي ذراعها اليمنى خلف ظهرها. كان الألم شديدا و لكنها تحملت و لم تصرخ، حاولت أن تفلت ، داست على قدمه بعقب حذائها عدة مرات و لكنّ قبضته لم تلن.
سمعت صوته قاسيا يقول : لشد ما أرغب في كسر ذراعك. تصفعينني أنا يا فاجِرَة ، تصفعينني و أنا من أنا.
قالت بصوت كالفحيح : لست بفاجرة ، ثم من أنت ، أنت رجل يبحث عن مومس فأي شرف تدّعيه ؟؟
لانت قبضته قليلا فأمرته بصوت يملأه الانفعال : اتركني و إلا صرخت و استنجدت بالمارة، اتركني حالا.
ضحك بصوت خافت : أعتقد أن آخر ما تريدينه هو لفت الأنظار إليك، و على أية حال اصرخي مهما شئت فلن أتركك حتى تطلبي العفو.
للأسف كان محقا فنجاح مهمتها كان يعتمد بشكل تام على سريتها. كلا لن تصرخ بالطبع . لم تفكر كثيرا لأن قبضته عادت و اشتدت على ذراعها فأرغمت نفسها علي ابتلاع الإهانة و الاعتذار بصوت خافت و لكنه قال لها آمرا : لم أسمعك يا امرأة، ارفعي صوتك.
قالت له بهدوء مصطنع : أرجو أن تعفو عما بدر مني في حقك أيها الغريب
ضلّ واقفا وراءها للحظات ثم أرخى قبضته و سمعت خطواته تبتعد مسرعة. أمسكت ذراعها متأوهة و استدارت تراقبه بغضب حتى ابتلعه الظلام.
- يا لسوء الطالع تمتمت بحنق
- يا لسوء الحظ تمتم لنفسه و هو يتخذ له ركنا يراقب منه المارة عسى أن يحظى بفتاة ليل حقيقية هذه المرة. رغما عنه تعلقت نظراته بالفتاة و ظل يراقبها.
رآها تتجه إلى بيت في الشارع الجانبي للخمـّارة. طرقت الباب و انتظرت و ما لبث أن خرج لها رجل ضخم الجثة. ظلا يتحدثان لبضع دقائق ثم فجأة امتدّت ذراع الرجل ليحيط كتفيها، رآها تحاول التملص منه و لكن بدا واضحا أن الرجل لن يتركها تفلت من قبضته. بل تطور الأمر فبدأ يسحبها إلي الداخل. لاحظ أنه رغم مقاومتها له فإنها لم تحاول أن تصرخ أو تطلب المساعدة، و ما أثار غيظه أنها لم تحاول حتى أن تصفعه مثلما فعلت معه. كان الموقف قد احتدم بينهما و بدأ يتحرك ليتدخل عندما شاهد الفتاة تغير من موقفها و تتجه مع الرجل لتدخل معه. هز رأسه بأسف و هو يتمتم : 
- إذن فهي امرأة رخيصة في النهاية.
شعر بخيبة أمل كبيرة و غيظ عميق لم يعرف له سببا. "فلتذهب إلى الجحيم" فكر في نفسه و تأهب ليغادر مكانه و يعود للحانة حينما سمع صرخة الرجل و شاهد الفتاة تلوذ بالفرار.
"ما الذي فعلته يا ترى" تساءل باستغراب، كانت قد وصلت قرب مكانه و رأى الرجل يخرج ليلاحقها و هو يمسك أعلى ذراعه اليمنى. برز من مكمنه و قال للفتاة بصوت آمر : تعالي معي و لا تلتفتي إلى الخلف.
رغم عظمة دهشتها إلا أنها أطاعته فورا. تبعته إلى زقاق ضيق مظلم و هي تستغرب من الأمان الذي تشعر به في وجوده مع أنه غريب مجهول. ظلت تسير خلفه صامتة حتى توقفا غير بعيد عن الخان الذي ينزل فيه. كان الرجل الآخر قد غاب تماما عن ناظريهما و لن يخطر له حتما أنها اتجهت إلى هذا المكان. 
وقفت أمام الغريب لا تدري ماذا تقول أو تفعل. لقد سدت جميع الأبواب في وجهها وأظلم أفقها تماما. سمعت صوته العميق يأمرها بالرحيل : تستطيعين العودة إلي بيتك ، أنت في أمان الآن ، كنت أود أن أوصلك و لكني مشغول بما هو أهم
استدارت لتغادر بخطى ثقيلة حين خطر لها خاطر مفاجئ جعلها تعود إليه بسرعة و تسأله بلهفة : أيها الغريب أخبرني هل ستغادر مدينتنا هذه قريبا؟؟
أجابها ببرود : مع أنه ليس من شأنك إلا أني سأرحل غدا قبل طلوع الفجر.
شعرت بالأمل ينعش قلبها فهي شبه واثقه أن دياره بعيدة، واثقة لأن لهجته و كذلك شكل نعليه ميزاه عن جميع الرجال اللذين عرفتهم خلال أسفارها العديدة.
قالت له برجاء : ما رأيك أن تقلني معك و سأدفع لك مبلغا مجزيا
أجابها بسرعة و بلهجة قاطعة : انسي هذا الأمر تماما فأنا لا أقل أحدا و لا أسافر إلا مع من أعرف.
أضاف بغلظة : ارحلي الآن فأنا في غنى عنك و عن متاعبك، ارحلي و لا تجعليني أندم على مساعدتي لك.
و لكنها لم تستسلم ، كان هو القشّة و كانت هي الغريق.
قالت تحثه على الموافقة : سأدفع لك أضعاف ما تحصل عليه من تجارتك أو أيا كان عملك. سأدفع لك بأي عملة تختارها ذهبا، فضة أو أحجارا كريمة.
أجابها و هو ينظر لها بشفقة : مسكينة أنت ألا تفهمين، فلتعلمي أني لن آخذك معي و لو دفعت لي وزنك ذهبا.
لكنها لم تيأس و واصلت تقول بصوت ليّن : حتى لو وافقت أن أؤدي لك الخدمة التي كنت ستطلبها مني
أجابها و هو يحث خطاه نحو النزل : حتى لو فعلت فلن آخذك معي و الآن فلتنصرفي يا امرأة
ترددت قليلا ثم رمت بآخر سهامها : حتى لو أخبرتك أني أود الرحيل فرارا من الموت قتلا
توقف و هو يتأملها بعدم تصديق فأسرعت تقول بصوت هامس و هي تلتفت يمنة و يسرة : صدقني أحدهم يريد قتلي
تفكّر في أمرها للحظات و لكنه قرر أخيرا أنه من الأسلم الالتزام بخطته بدون أي تغييرات. قال و هو يستدير ليبتعد :
- للأسف لا أستطيع مساعدتك
لحقت به شبه راكضة و وقفت أمامه و هي تقول له بصوت خفيض مليء بالازدراء :
- لقد كنت متأكدة أن المروءة ماتت مع أبي غير أني أريدك أن تفقه كلامي جيدا: أنت رفضت مساعدتي و أنا امرأة لا سند لي لذلك كن واثقا أنه سيأتي يوم تحتاج فيه ابنتك أو إحدى نسائك إلي أحد يساعدها و لن تجد. أوتعلم لماذا؟ لأنك كما تدين تدان.
ما إن أتمت كلامها حتى أولته ظهرها و سارعت بالابتعاد. تنهد بغيظ ، لقد عرفت الأفعى ماذا تقول و كيف تقوله. و استطاعت بحديثها أن تلمس وترا حساسا بداخله. وجد نفسه يلحقها مرغما و يقول لها بصلابة :
- لسوف أستمع إلي روايتك و حينها فقط حينها سأقرر إن كنت تستحقين أن آخذك معي أم لا. هيا معي الآن.
سألته بصوت خافت : إلى أين؟
أجابها بنفاذ صبر : إلى غرفتي طبعا، أين عسانا نتحدث في هذا الوقت من الليل
همست قائلة : غرفتك؟
و لكنه كان قد غادر فلم يسعها إلا أن تتبعه في استسلام.

الرحيل إليه للكاتبة : حكايا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن