الفصل الخامس (لماذا الجفاء؟)

6.9K 201 2
                                    

ظلوا يرتحلون طوال اليل و جزءًا كبيرا من الصباح حتى وصلا إلى أول مدينة تقابلهما. ما إن دخلت ميسون غرفتها في الخان الذي اختاره عاصم ، حتى غطت في نوم عميق و لم تستيقظ إلا حين أتتها مربيتها بالطعام. و أثناء الأكل أخذت تحدثها بما فعلوه أثناء نومها.
قالت في معرض حديثها : لو تعلمين يا ابنتي ما عانته تلك الفتاة التي تدعى "عزة" لبدا لك ما أنت فيه هينا.
قالت ضاحكة : ما أسرعك يا خالتي في اكتشاف خبايا الناس. إذا فقد أخبرتك باسمها و بمكنون قلبها كذلك.
قالت المرأة بتواضع : لقد إِطْمَأنَّت إلي فحدثتني بقصتها، أتريدين أن أخبرك إياها
هزت كتفيها متظاهرة بعدم الاكتراث : إذا كانت ليست سرّا
أجابتها مربيتها بحماس : كلا ليست بسر طبعا، ثم بدأت تقص عليها بتأن شديد كعادتها دائما : حسنا اسمعي حكايتها كما روتها لي. أولا الرجل و المرأة اللذان كانت الطفلة لديهما هما جداها والدا أمها التي هي كما لا شك فهمتِ زوجة عاصم أو بالأحرى كانت كذلك لأنها قد توفاها الله. أما الفتاة عزّة فهي ابنة خالة الزوجة. توفي عنها أبواها و تركاها شبه معدمة و بدون عائل فأتت لتعيش لدى خالتها منذ حوالي سنة. كانت في السابعة عشر عندما بدأت تسكن عندهما فجعلاها مربية لحفيدتهما. ورغم أن الطفلة سرعان ما تآلفت معها و أحبتها إلا أن المسكينة كانت في غاية البؤس و التعاسة.
قالت ميسون متأسفة : لا شك أنهما كانا يعاملانها كخادمة
أجابت المربية و هي تتنهد : يا ليت الأمر كان كذلك فحسب , ما زاد في شقائها هو زوج خالتها عديم المروءة فقد كان يراودها عن نفسها ليل نهار و لولا خوفه من زوجته و خشيته من كلام الناس لما نجت منه.
صمتت ثم سرعان ما أكملت بعد أن تذكرت شيئا ما : أتعلمين لماذا باحت لي بكل هذا؟
- لماذا يا خالة؟
لأنها كانت قد أفاقت من كابوس رأته فيه وهو يخنقها خنقا بيديه و هي تستغيث و لا تغاث. لو رأيت منظرها المسكينة عندما استيقظت مفزوعة و هي تردد " العصافير العصافير" حتى خفت و ظننت أن بها مسا. ظللت أسمّي عليها و أحضنها حتى هدأت.
هزت ميسون رأسها و هي تقول بإشفاق : يا إلاهي، لذلك بدت لي نظراتها تموج بالفزع.
صمتت قليلا ثم سألت مربيتها باهتمام : خالتي "جميلة" أخبريني عن الطفلين ، كيف هما ، ألا يشعران بالحزن لمفارقة الديار.
ضحكت المرأة و هي تنفي بثقة : يشعران بالحزن ؟ أبدا يا ابنتي بل العكس تماما، لقد تآلفا تماما كأنهما عاشا معا طوال حياتهما. لكن أتعلمين ما الشيء المحزن بحق؟
تطلعت إليها ميسون متسائلة فردت بأناة : الشيء المحزن هو أن الطفلة لم تتذكر أباها إطلاقا فقد فارقها و هي بالكاد تبلغ الثالثة. المسكين لم تدعه يلمسها أو حتى يقترب منها، بل عندما استأذن و دخل علينا الغرفة ليحضر لنا الطعام سارعت الطفلة بالاختباء ورائي.
- ألفتك و لم تألف أباها 
- نعم يا للمسكين
.................................................. .......... ..................................................
بعد أن ركب الجميع العربة سارعت ميسون إلى عاصم قبل أن يعتلي صهوة جواده و مدّت إليه يدها بكيس من المال قائلة : أنا آسفة لتأخري عليك
ترك يدها معلقة في الهواء قائلا لها بصرامة : ما هذا اللذي تفعلينه؟
أعادت يدها إلى جانبها و هي تقول بارتباك : هذا أجرك الذي اتفقنا عليه في مقابل أن تأخذنا معك
قال لها بصوت قاس : اسمعي يا امرأة، أنا لا آخذ أجرا من لدن أحد. لقد أخذتكم معي مشفقا لا طامعا في ذهب أو مال
رغما عنها جالت نظراتها بملابسه البسيطة و قالت له بشك : و لكني أخشى أن ترهقك نفقاتنا فنحن ثلاثة أشخاص إضافيين و لا أريد أن أثقل عليك
للمرة الثانية منذ أن قابلها لاحظ أنها تحكم عليه من هيئته. الحق أن كلهن سواء خاويات و متكبرات. 
قفز على ظهر جواده برشاقة و خاطبها من الأعلى بصوت جليدي : إن كنت لا تريدين إثقالا علي فلتشتري طعامك بنفسك 
همز الجواد بكعبيه و انطلق تاركا إياها لا تحير جوابا. أسرعت بركوب فرسها للحاق به و هي تغلي غيظا.
" دائما ما تكون له الكلمة الأخيرة معي ، الفظّ ، الفجّ ، الجلف، لكم أمقته "
…………………………………………………………………………………
………………………………………
في الأيام التي تلت لم يترك لها الفرصة لتشتري أي شيء ، كان دائما يستيقظ قبلها و يشتري الأكل لهم جميعا و لكنه رغم ذلك لم يكن يكلمها إلا لماما. لم تستطع أن تفهم أبدا سرّ جفائه الشديد معها . في البداية ظنت أنه يكره النساء جميعا و لكن عندما رأت طريقة كلامه و تصرفه مع تلك الفتاة عزة ، تيقنت أنه ينفر منها هي بالذات. و لأول مرة و هي الفتاة الجميلة التي تعودت بالرجال يطلبون ودها تقابل من يكاد لا ينظر إليها.
كانت جالسة وحدها مع أفكارها تحت إحدى الأشجار عندما رأته قادما نحوها. شعرت بالاستغراب الشديد و تساءلت عن السبب وراء قدومه. رفعت عينيها إلى وجهه فقابلت نظراته الباردة إليها. وجهت له نظرة يمتزج فيها الحزن بالعتاب ثم قامت واقفة تنتظر دنوه منها و هي تنظر إلى الأرض لتتلافى عينيه القاسيتين .
توقف على بعد خطوات منها و سألها بصوته العميق : لم نتفق أين سأُنزلك؟
رفعت عينيها إليه في دهشة ثم عادت فخفضتهما بسرعة. فاجأها سؤاله للغاية فلقد ظنت بداهة أنه سيأخذها معه إلى مدينته حيث ستتخذ منها موطنا جديدا. لكن الآن فهمت أنه لم ينو أبدا هذا بل أراد تركها وراءه في إحدى المدن التي تقع في طريقه.
لا تدري لم داهمها إحساس عنيف بالهوان، شعرت و كأنها حمل غير مرغوب فيه يسعى صاحبه للتخلص منه. زمت شفتيها و ظغطت على أسنانها بقوة لتمنع عبارات أرادت التدفق و فضح ضعفها أمام هذ الرجل اللامبالي. 
بذلت مجهودا كبيرا لتقول له بصوت خفيض : هلا انتظرتني قليلا ، سأحضر غرضا و أعود
أشار لها بالموافقة فانطلقت راكضة إلى العربة و قد تركت العنان لدموعها الدافئة تنسكب على خديها و تغسل ألمها. 
عندما عادت إليه بعد برهة، كانت قد تمالكت نفسها تماما. كانت قد أحضرت معها لوحا و بعض الأوراق و الأقلام. سألته بأدب : هل يسمح لك وقتك بأن تصف لي الطريق حتى أرسم خريطة و أختار أنسب مكان تُنزلنا فيه.
صمت قليلا ثم جلس متكئا علي جذع الشجرة و هو يقول لها بعدم اكتراث : فليكن
جلست غير بعيد عنه و وضعت لوحها على حجرها و بسطت أوراقها عليه. بدأ يصف لها مختلف معالم الطريق و كانت توقفه أحيانا لتسأله عن بعض التفاصيل ثم تعود للرسم. عندما أكمل وصفه لها، نهض من مجلسه و نظر إليها من أعلى . كانت أناملها الرقيقة تنهي آخر لمساتها على الخريطة التي بدت مرسومة ببراعة متناهية.
قال لها بإعجاب لم يستطع إخفاءه : أنت ترسمين بحذق ، من علمك الرسم بهذه الطريقة
قالت بفخر و هي ترفع الخريطة أماها و تتأملها : إنه عمي صديق أبي. فكما أخبرتك كنا نسافر طوال الوقت إلى أماكن كثيرة لذلك كنا دائما نحتاج إلى الخرائط.
نظرت له و واصلت تقول : و لكنها ليست بعسيرة كما قد تتصور. كل ما يحتاجه المرء هو القليل من الصبر حتى يتقن الأمر.
ساد الصمت بينهما و عجزت هي عن خفض عينيها فورا ، ربما لأنها رأت شيئا آخر غير القسوة في عينيه، شيئا أبعد ما يكون عن البرود و الجفاء. خيل إليها أنها تلمح في نظراته شيئا من الدفء و رأت شفتيه تنفرجان كأنه يهم بقول شئ ما عندما تمت مقاطعتهما باقتراب الطفلين منهما.
توقفا يلهثان بعد ركضهما، و حين استعادا أنفاسهما تقدمت الطفلة سائلة و هي تحدق في الخريطة بإعجاب : ما هذه الرسمة الجميلة
أجابتها ميسون بابتسامة هادئة : ندعوها خريطة، و الغرض منها هو أن نعرف أين نحن و أين سنتجه
قربتها منها ثم أخذت تشرح لها بتمهل : الآن نحن بجانب هذا الجبل، فيما بعد سنمر بهذه المدن الصغيرة حتى نصل إلى هذه المدينة التي تقع قبل هذا النهر، سننزل نحن هناك بينما تكملون أنتم رحلتكم فتعبرون النهر حتى تصلوا إلى وجهتكم.
ظلت الطفلة صامتة ثم سألتها بحيرة : هل تعنين أنكم ستفترقون عنا؟!
عندما رأت الأسف في عيني ميسون التفتت إلى صديقها الحديث قائلة : لماذا كذبت علي يا أسامه ، لماذا قلت لي أننا سنظل معا إلى الأبد. لن نلعب معا بعد الآن.
و انفجرت بالبكاء فأجابها باكيا هو الآخر : لم أكن أعلم ، صدقيني
ثم التفت إلى أخته صارخا : لماذا لم تخبريني؟ لماذا كذبت علي كما كذبت من قبل عندما مات أبي و أخبرتني أنه سافر في رحلة. كاذبة ، كاذبة ، كاذبة و أنا أكرهك أكرهك
تركته يفرغ ما في جعبته من ألم ثم احتضنته بقوة وهي تهمس له بكلمات رقيقة. عندما هدأ أخيرا ركعت على ركبتيها و وضعت ذراعا على كتفي كل من الطفلين و قالت لهما بهدوء : عندما يقرر الكبار شيئا ما فيجب أن تنصاعا له ذلك لأن الكبير يعرف أكثر من الصغير، أتفهمان؟
قالا باحتجاج: و لكننا لا نريد أن نفترق، نود أن نبقى معا ، ما الضير في ذلك؟
أجابتهما بابتسامة حزينة : بعد كل فراق يأتي لقاء
التفتت إلى الطفلة و داعبت شعرها برفق و هي تقول : و الآن لا أريد الدموع أن تفسد جمال وجهك يا زهراء ، كفي عن البكاء الآن و سأعلمك كيف ترسمين.
راقبتهما يبتعدان بخطوات بطيئة ثم لملمت أغراضها و قامت تتبعهما.
استوقفها عاصم متسائلا : هل أنت واثقة من اختيارك تلك المدينة؟
تمتمت في سرها " كلا لست واثقة أيها الجلف لكنك لم تترك لي الخيار" . أجابته بهدوء دون أن تلتفت إليه :
- إنها تقع على مسافة معقولة ثم إنها الأكبر مساحة بين ما قبلها من مدن ، سنذوب في زحامها و حتى لو تعقبني ذلك الحقير أسعد فلن يعرف لي طريقا فيها.
غادرته دون أن تترك له الفرصة ليقول شيئا آخر. كان قد أخبرها أن المدينة التي اختارتها تقع على بعد عشر ليال سفر. و قد قررت أنها ستتجاهله تماما طوال المدة الباقية. أسرعت في سيرها و هي تكلم نفسها بصوت خافت : 
- سأرد لك الصاع صاعين أيها الفظ ، سأعلمك من هي ميسون

الرحيل إليه للكاتبة : حكايا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن