١

37.6K 439 25
                                    

انطلق بوق السيارة أكثر من مرة وبإلحاح دفع صميده البواب إلى الهرولة رغم سنواته الستون
حتى يفتح البوابة الضخمة التي تفصل قصر "عبد الرءوف الجي ا زوي" عن الخارج..
فتح صميده بوابة القصر ليجد سيارة رؤوف تدلف داخل القصر بسرعة شديدة..
رؤوف هو الحفيد الذكر الوحيد ل"عبد الرؤوف الجي ا زوي", والذي سُمي تيمناً باسم الجد ولكن
تحول الاسم مع الأيام إلى رؤوف.. هو شاب غاية في النشاط والإلت ا زم, من يعرفه لا
يصدق أنه على أبواب الحادية والعشرين فهو شديد الجدية والص ا رمة لا تكاد التقطيبة تفارق
جبهته.. حاجباه متعاقدان دائماً وكأن مطلوب منه حل مشاكل الشرق كلها.. ولكن من
يعرف الجد معرفة وثيقة لا يتعجب من ذلك.. فرؤوف تم تنشئته وتوجيهه بين يدي الجد
حتى أصبح نسخة مصغرة منه تقريباً.. يعتنق نفس أ ا رئه وينتهج نفس أسلوبه الحازم..
اسم العائلة ومصلحتها لها الأولوية دائماً حتى على مصلحة بعض أف ا رد تلك العائلة أو
سعادتهم!!!..
ولكن هذا لا يمنع من الاعت ا رف أن رؤوف شاب غاية في الوسامة والجاذبية فبطوله الفارع
وكتفيه العريضين مع ملامحه الداكنة شديدة الرجولة هو حلم لنصف م ا رهقات البلدة
وفتياتها, ولكنه بحكم تربيته وتفكيره لا يلتفت لتلك التفاهات كما يسميها..
فهو وُلِدَ رجل كما لقنه جده والرجل الحق لا يلتفت لتفاهات الغ ا رم والنساء بل تلك الأمور
تكون فقط للصبية والم ا رهقين..
ترجع قوة تأثير الجد في نفس حفيده بسبب قيامه برعايته بعد وفاة والده عبد الله ووالدته
زينب في حادث سيارة منذ خمسة عشر عاماً.. وكان رؤوف تخطى عامه الخامس حين
وجد نفسه يتيم الأبوين وحل جده مكانهما في حياته وقلبه.. لذا وبعكس اندفاعه المحموم
للولوج إلى القصر تحرك بتثاقل نحو غرفة جده وهو لا يعلم كيف يمكنه نقل الخبر الأسود
إليه..
طرق باب غرفة جده ثم فتح الباب ليجد جده غارق في خشوعه وهو يتلو بعض آيات الذكر
الحكيم.. فوقف رؤوف بهدوء ظاهري عكس ما يعتمل داخله وهو في انتظار أن ينتبه جده
لوجوده... وهو ما حدث بعد عدة دقائق.... حيث التفت الجد إلى حفيده:
ماذا و ا رءك يا رؤوف؟.. لما أتيت في هذا الوقت من النهار؟..
تقدم رؤوف من جده وجثى بجانبه وهو يقبل ظاهر يده:
صباح الخير يا جدي.. كيف حالك؟.
تعجب الجد ورمق حفيده بنظرة متفحصة وهو يقول بحدة:
ماذا بك يا رؤوف؟ هل تركت الشركة في ذلك الوقت من النهار لتسألني عن أحوالي؟..
ازدرد رؤوف ريقه بعصبية فهو غير معتاد على تقريع الجد له:
جدي.. أمممم.. جدي...
صاح الجد بغضب وهو ينهض من كرسيه:
رؤوف.. هات ما عندك.. فلا وقت لدي أو لديك لهذا التردد.
وجد رؤوف أن المواجهه هي أفضل حل.. فنظر في عيني جده وهو يقول:
جدي إنك رجلٌ مؤمن.. ولم تعترض يوماً على قضاء الله..
قاطعه جده:
هل الأمر يتعلق بعمك عبد الرحمن؟.. هل هو مريض؟.. أم..
ترك سؤاله معلق فلسانه لم يطاوعه لينطق الكلمة..
تعجب رؤوف من ف ا رسة جده, وروحه الشفافة التي استشفت الكارثة رغم عدم وجود مقدمات
لها, فنكس أ رسه ليخفي بضع دمعات ترقرقت في عينيه:
البقاء لله.
ترنح الجد في وقفته فتحرك رؤوف مسرعاً ليدعمه وهو ي ا رفقه ليعود إلى مجلسه.. سأله الجد
بصوت خفيض مكسور يسمعه للمرة الأولى:
ماذا؟.. كيف؟..
أدرك أن جده يطالبه بالتفاصيل فحاول أن ي ا روغه:
جدي يجب أن ترتاح.. دعني اتصل بالطبيب ثم..
قاطعه الجد بش ا رسة:
أخبرني يا رؤوف.. كيف؟.. هل كان حادث سيارة آخر؟..
تنهد رؤوف وهو يجيب جده:
كلا يا جدي.. لقد كنا معاً في المصنع عندما شعر عمي بألم شديد في كتفه الأيسر..
حاولت أن أقنعه بأخذه إلى المشفى لكنه رفض.. ثم طلب الذهاب إلى المنزل.. و... و..
قبل أن نصل...
صمت ولم يجد ما يضيفه...
ساد الصمت لعدة دقائق ورؤوف يتأمل جده يحاول تبين تلك القوة التي يتمتع بها الرجل..
فقد علم للتو بأنه فقد ابن ثانٍ ومع ذلك يبدو في غاية الثبات...
ثم سمع جده يهمس في صمت وكأنه كان بداخل عقله يق أ ر أفكاره:
"إنما الصبر عند الصدمة الأولى"..
فأجابه رؤوف:
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم تنحنح ليجلي صوته:
جدي..
عاد جده لمقاطعته:
رؤوف يا بني.. إنني أعتمد عليك اليوم.. حاول أن تنهي جميع الإج ا رءات قبل غروب
الشمس... أنت تعلم أن عمك عبد السلام لا قِبل له بمواجهة المصائب.
تقدم رؤوف منه وهو يجيبه:
حسناً... يا جدي.. لا تقلق, سأُنهي كافة الأمور.. ولكن هل أنت متأكد أنك لا تحتاج إلى
طبيب؟..
أجاب الرجل المسن:
كلا يا رؤوف.. فقط استدعي عمتك قمر.
بالطبع يا جدي.
*********************
أنهى رؤوف كافة الإج ا رءات المطلوبة لدفن عمه.. وكلف رجاله بإقامة س ا ردق ضخم للع ا زء,
يليق بعائلة الجي ا زوي أكبر عائلات تلك المحافظة في جنوب مصر..
أذهل "عبد الرؤوف" الجميع كالعادة بصلابته وقوة إيمانه وهو يرفع التابوت الذي يحتوي
على جثمان ابنه مع الرجال ويصر على ذلك, رغم محاولة رؤوف لمنعه.. ولكن الرجل
المسن تمسك بالتابوت وكأنه يريد أن يحتفظ بآخر لحظاته مع ابنه قبل أن يواريه الت ا رب..
عاد الجميع إلى قصر الجي ا زوي.. وذلك لتناول الغذاء كما تقتضي العادات.. وكانت مأدبة
كبيرة تولت قمر الإعداد لها بمساعدة العديد من النساء اللذين قام رؤوف باستئجارهن
لمساعدة عمته... كما حضرت لتقديم المساعدة شموس زوجة عبد السلام الابن الأصغر
لعبد الرؤوف هي وبناتها الثلاث.. سهير, وقمر, ونادية.. اللاتي كن في حالة ذهول وخوف
مما يرينه حولهن من مظاهر البكاء والنحيب..
فقالت قمر لزوجة أخيها:
شموس.. فلتصعد الفتيات إلى الطابق العلوي الآن حتى لا تصبن بالهلع..
أجابتها شموس:
أنتِ تعلمين أن نعمات زوجة المرحوم عبد الرحمن نائمة في الطابق العلوي بعد أن حقنها
الطبيب بذلك المهدئ بعد انهيارها في المقابر, وأخشى أن يزعجنها.
ترقرقت الدموع في عيني قمر وهي تقول:
نعم.. لقد انهارت المسكينة تماماً..
ثم عادت تقول لشموس:
ولكنكِ أيضاً بحاجة إلى ال ا رحة.. فأنتِ حامل والاجهاد ليس في صالحك..

قيد القمرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن