*ملاحظة صغيرة*
هذه قصّة خيالية مبنية على وقائع، سأوضّح الخيال فيها في نهايتها.مرَّ عامانِ على آخِر لقاءٍ بيننا، قبل أن يُغادر "عليٌّ" بغدادَ إلى الأندلس، لازلتُ أذكر ما دار بيننا ذاك اليوم، و كيف أنني ناشدته و بكيت كثيرًا ، و لازلتُ رجوته ألّا يفعل، ولم ينصت.
عشقتُ الأدب و البلاغة منذ نعومة أظافري و كنتُ و إيّاه نتبارز دومًا في الشِّعر، كان ابن عمّي، كبرنا مع الأيام و قبل أن ندرك ذلك كنّا بالفعل قد وهبنا قلوبنا لبعضنا. ولكنّ الرياح لا تجري دومًا كما تشتهي السُّفن، سرى الوباء في الدّيارِ حاصدًا أرواحًا كثيرة، و توفيَ عمي و كان والدي طريح الفراش، الفقر كان قد أخذ منّا مآخذ كثيرة، و لمعت في رأس عليِّ فكرةٌ ظننتُ أنّ الأيام ستوليه نسيانها، ولكنه لم يفعل.
جائني في ذاك اليوم عازمًا الرحيل لكسب القوت، صدمت و انزعجت، جُرحت، أتذهب و تتركني هكذا؟ -اذًا تزوجيني و ارحلي معي! -و أبي! من يرعاه في مرضه إن أناْ انصرفت!
كان جدالًا بلا معنى، ما ثناه بل زاده إصرارًا، و رحل و رحلت معه سعادتي، ولكنّ أملي بلقائه قريبًا ما انطفأ.فارق أبي الحياةَ بعد ذلك الوقت بقليل.. كنتُ الوحيدةَ معه، و اضطررت بعدها للعمل في تلقين الشعر و الأدب لآنساتِ القصور، جمعتُ مالًا يكفي لرحلتي في مدةِ عامين، كالبلهاء كنتُ أتخيل ردة فعله حين يراني و أبتسم لنفسي، مشتاقة له كثيرًا!
سألت و بحثت كثيرًا حتى استدلتُ الطّريق، قيل لي أنه لم يغادر داره منذُ عدّة أيام و انشغل بالي و قلقت.. دققت الباب حتى نفذ صبري و دخلتُ بجرأةٍ و خوف. منضدة خشبية مهترئة ، قرطاسٌ شبه جاف و قلم مهترئ، و عدّة رقع .. أرففٌ بالكاد تحملُ بعضها حملت أغراضًا مرصوفةً بقلةِ ترتيب، و في الزاوية القصيّة، كان السّرير و فيه فاضت الرُّوح لبارئها.. مشيتُ بخطى مترنّحة.. لمستُ وجنته الباردة، يدي بل جسدي بأكمله يرتجف، هززته، علي، استيقظ لقد جئت من أجلك! علي! هيا بربك نومك ليس ثقيلًا لهذا الحد! علي!! لم أكد أنتبه لدموعي حتى تشوشت رؤيتي.. لم تتوقف بل استمرت بالانهمار.. لم أبكِ كثيرًا حين توفي والدي.. ما هذا الآن!!فقدت توازني، أنفاسي متقطعة ولكن لا يمكنني التوقف عن النشيج المكتوم، لم يتوقف جسدي عن الارتجاف علا صوتي و بكيت أكثر.. بكيت بحرقة.. بكيتُ كطفلة، لكنّ ألمي لا يزول.
بالكاد حاولتُ النهوض مجددًا، تشبثت بكل شيء، و وقفت، انتبهت مجددًا لرقعةٍ من الرُّقعِ على المنضدة الدّاكنة و قد كتب بها الآتي؛
لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ
جاوَزتِ فِي لومِه حَدًا أَضَر َّبِهِ مِن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ الّلوم يَنفَعُهُ
فَاستَعمِلِي الرِفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلًا مِن العَذلِ فَهوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ
قَد كانَ مُضطَلَعًا بِالخَطبِ يَحمِلُهُ فَضُيَّقَت بِخُطُوبِ الدهرِ أَضلُعُهُ
يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَه ُ مِنَ النَوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُ
ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ
كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ
إِذا الزَمانَ أَراهُ في الرَحِيلِ غِنىً وَلَو إِلى السَندّ أَضحى وَهُوَ يُزمَعُهُ
تأبى المطامعُ إلا أن تُجَشّمه للرزق كدًا وكم ممن يودعُهُ
وَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ تَوصِلُهُ رزقًَا وَلادَعَةُ الإِنسانِ تَقطَعُهُ
قَد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُم ُ لَم يَخلُق اللَهُ مِن خَلقٍ يُضَيِّعُهُ
لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى مُستَرزِقًا وَسِوى الغاياتِ تُقنُعُهُ
وَالحِرصُ في الرِزقِ وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت بَغِيُ أَلا إِنَّ بَغيَ المَرءِ يَصرَعُهُ
وَالدهرُ يُعطِي الفَتى مِن حَيثُ يَمنَعُه إِرثًا وَيَمنَعُهُ مِن حَيثِ يُطمِعُهُ
أستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَرًا بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وكم تشفّعَ بي أن لا أُفَـارِقَهُ وللضروراتِ حالٌ لا تُشفّعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
لا أَكُذبُ اللَهَ ثوبُ الصَبرِ مُنخَرقٌ عَنّي بِفُرقَتِهِ لَكِن أَرَقِّعُهُ
إِنّي أَوَسِّعُ عُذري فِي جَنايَتِهِ بِالبينِ عِنهُ وَجُرمي لا يُوَسِّعُهُ
رُزِقتُ مُلكًا فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ
وَمَن غَدا لابِسًا ثَوبَ النَعِيم بِلا شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ
اِعتَضتُ مِن وَجهِ خِلّي بَعدَ فُرقَتِهِ كَأسًا أَجَرَّعُ مِنها ما أَجَرَّعُهُ
كَم قائِلٍ لِي ذُقتُ البَينَ قُلتُ لَهُ الذَنبُ وَاللَهِ ذَنبي لَستُ أَدفَعُهُ
أَلا أَقمتَ فَكانَ الرُشدُ أَجمَعُه ُ لَو أَنَّنِي يَومَ بانَ الرُشدُ اتبَعُهُ
إِنّي لَأَقطَعُ أيّامِي وَأنفقُها بِحَسرَةٍ مِنهُ فِي قَلبِي تُقَطِّعُهُ
بِمَن إِذا هَجَعَ النُوّامُ بِتُّ لَه ُ بِلَوعَةٍ مِنهُ لَيلى لَستُ أَهجَعُهُ
لا يَطمِئنُّ لِجَنبي مَضجَعُ وَكَذا لا يَطمَئِنُّ لَهُ مُذ بِنتُ مَضجَعُهُ
ما كُنتُ أَحسَبُ أَنَّ الدهرَ يَفجَعُنِي بِهِ وَلا أَنَّ بِي الأَيّامَ تَفجعُهُ
حَتّى جَرى البَينُ فِيما بَينَنا بِيَدٍ عَسراءَ تَمنَعُنِي حَظّي وَتَمنَعُهُ
قَد كُنتُ مِن رَيبِ دهرِي جازِعاً فَرِقًا فَلَم أَوقَّ الَّذي قَد كُنتُ أَجزَعُهُ
بِاللَهِ يا مَنزِلَ العَيشِ الَّذي دَرَست آثارُهُ وَعَفَت مُذ بِنتُ أَربُعُهُ
هَل الزَمانُ مَعِيدٌ فِيكَ لَذَّتنا أَم اللَيالِي الَّتي أَمضَتهُ تُرجِعُهُ
فِي ذِمَّةِ اللَهِ مِن أَصبَحَت مَنزلَهُ وَجادَ غَيثٌ عَلى مَغناكَ يُمرِعُهُ
مَن عِندَهُ لِي عَهدُ لا يُضيّعُهُ كَما لَهُ عَهدُ صِدقٍ لا أُضَيِّعُهُ
وَمَن يُصَدِّعُ قَلبي ذِكرهُ وَإِذا جَرى عَلى قَلبِهِ ذِكري يُصَدِّعُهُ
لَأَصبِرَنَّ لدهر ٍلا يُمَتِّعُنِي بِهِ وَلا بِيَ فِي حالٍ يُمَتِّعُهُ
عِلماً بِأَنَّ اِصطِباري مُعقِبُ فَرَجًا فَأَضيَقُ الأَمرِ إِن فَكَّرتَ أَوسَعُهُ
عَسى اللَيالي الَّتي أَضنَت بِفُرقَتَنا جِسمي سَتَجمَعُنِي يَومًا وَتَجمَعُهُ
لم أكد أتوقف عن البكاء حتّى انهرتُ مجددًا.. أعلم أنك لم تنسَ، و ألوم نفسي بقدر الأيام التي أردت فيها أن آتي إليك و لم أفعل.. بيدي المرتجفة بالكاد حافظت على توازن القلم، بالكاد عبأته مما لم يجف بعد من حبر القرطاس و كتبت أسفل الأبيات:
وَإِن تُغِلُّ أَحَدًَا مِنّا مَنيَّتَهُ لا بُدّ في غَدِه الثّاني سَيَتْبَعَهُ
وإن يدم أبدًا هذا الفراق لنا فَما الَّذي بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُوضعت الرقعة عند رأسه.. خرجت من الدار بالكاد.. و أبلغت عن موته. خرجت إلى غير رجعة.. و عشتُ أيّاميَ الباقية أذكر الماضي بشبح ابتسامة، موقنةً أنني سألقاه فيما بعد، في جنان الخلد.
-تمّت-
.
.
القصيدة العينية لابن زُريق البغدادي، وجدت هذه القصيدة عند رأسه بعد وفاته، يقال أنه كان يحب ابنة عم له و ضاقت به السبل حتى اضطر آسفًا الهجرة لطلب الرزق تاركًا في بغداد زوجته "أو هكذا قيل". القصة كتبت في عين الخيال من باب وجهة نظر الحبيبة.
.
آراؤكم ستسعدني 💕