يقع كوخ كلير على بعد نصف ميل من البحيرة السوداء ، وقد بني وفق الطراز الفيكتوري ، من الصوان والحجر ، ويعلوه سقف رمادي من الاردواز . شيده في الاصل فلاح محلي لايواء خرافه ، وهو قريب من المراعي حيث ترعى النعجات ، بانتظار أن تضع صغارها في الاشهر الباردة الاولى من الربيع . يضم الكوخ أساسا غرفتين وحجرة لغسل الاطباق في الاسفل ، وغرفتين اخريين في الاعلى . لكنه خلا من اي حمام او حتى مغسلة . وقبل سنوات شب حرق هائل في الكوخ ، فترك فترة طويلة خاليا ، متداعيا قبل ان تقدم كلير على شرائه . ولما كان السقف منهارا . والنوافذ مهشمة وورق الجدران مقشر ، تمكنت كلير من شرائه بمبلغ زهيد ، وقررت أن تعيد تصميمه وفق رغبتها .
منتديات ليلاس
وقف دنزل بلاك في غرفة الجلوس , يتامل الجدران الناصعة البياض ، والموقد الاردوازي الذي بقى سالما رغم الحريق ، اضافة الى قطع الاثاث الموزعة في ارجاء الغرفة , التي اشترتها كلير بثمن بخس من المزادات . وما لبث ان تمتم : هذا مثير للاهتمام ! ليس حميميا تماما ، ولكنه مثير للاهتمام ، لاسيما أنه ذوقك.
فتذمرت بدفاع : لم انته من الديكور بعد ، اما الاثاث فمؤقت ، وذلك حتى اقرر مظهر المكان النهائي .
- له جو خاص .فهذه المصابيح مثلا تناسب البحيرة السوداء بل تبدو وكانها تنتمي اليها .
فاحمر وجه كلير وقالت : لم ات بها من هناك ، اذا كان هذا ماتلمح اليه .
رمقها بعينين باردتين ، واضاف : لم افعل . لا تردي بنزق على كل ما اقوله ، فذلك اشبه بمحادثة مخلوق شرس .
وقبل ان تبدي كلير اي رد فعل ، اردف بنعومة : لكني مستعد لتقديم عرض .
فتصلبت قبل ان تهتف : ماذا ؟
أجابها بصوت رقيق : بشأن المصابيح .
- آه !
استرخت مجددا ، انما قبل الاوان اذ سالها وفي عينيه سخرية باردة تتعارض مع الدم الحار الذي صبغ بشرتها : وماذا ظننت انني اقصد ؟
ومرة اخرى ، لم تملك وقتا للاجابة اذ بادرها بسؤال جديد : ماذا عن الحرارة ؟
فرمقته بارتباك ، قبل ان يفسر كلامه : ماذا عن نظام الحرارة في هذا الكوخ ؟
- تنبعث التدفئة المركزية من الموقد في المطبخ .
ولم تستطيع كلير ان تعرف تماما هل يطلق ملاحظات ذات حدين ، ام انها تتخيل الامر ليس الا . اهي شديدة الحساسية اليوم . ام انه فعلاً يتسلى على حسابها ؟ ومهما كان السبب ، فقد دفعها الانفعال الى الخروج من غرفة الجلوس ، والتوجة الى الغرفة المقابلة ، التي تضم المطبخ ومائدة الطعام . وما كان منه الا ان تبعها ، ثم توقف فجأة وقد علا حاجباه دهشة . هذه غرفه مختلفة . أكاد احس انني بحاجة الى نظارات شمسية لشدة النور هنا ؟
بالفعل ، كانت غرفة ذهبية دافئة . فالجدران مكسوة بورق الصنوبر الذي يحفظ الحرارة ، ويناسب الطاولة والكراسي المصنوعه من خشب الصنوبر ايضا. والخزانة الطويلة تحوي عدداً من الاواني الخزفية الصينية التي دأبت كلير على جمعها على مر السنين .اما ستائر النوافذ . فتزينها تفاحات حمراء لماعة واوراق خضراء كبيرة ، تضفي على الغرفة جوا طفوليا ، مفعما بالحيوية ونابضا بالفرح . بدا ذاهلا لا يصدق عينيه وهو يقول : أهذا ذوقك ؟
ودت كير لو ترد بالايجاب ، لكن بدا من الواضح انه لن يصدقها . وكم ازعجها ان يكون على حق ! فهي لاتريد ان يكون رايا عنها .غير انها اضطرت ان تقر بالحقيقة على مضض :
في الواقع تركت لاختي حرية انتقاء الاثاث والستائر .
فأعلن ، وقد رفع حاجبيه الاسودين بسخرية : آه ... انها لوسي اذا .. وهي نسخة كبيرة لأليس في بلاد العجائب ! نعم هذا اكثر منطقية .
واستدارت كلير وخرجت من الغرفة ، ثم التفتت الى الخلف وقالت : في الاعلى . غرفة مفروشة واحدة .
-لكني احب هذا الخشب المكشوف ، فهو يبدو رائعاً.
- يعني ذلك انه يحتاج الى ان يصقل جيدا . اعرف امرأة بالقرية تقوم باعمال التنظيف ، لكنها تطلب اجرا مرتفعا ، نظرا الى انها تحتاج لسيارة لتصل الى هنا . وقد نظفت المنزل بعد ان غادر البناء ! لذا فهي تعرف المكان .
-هل يمكنك ان تطلبي منها تنظيف المنزل مرة في الاسبوع . اظن ذلك يكفي ، فالمكان ليس كبيرا مارأيك ؟ -حسنا ، ساتصل بها ، واطلب منها ان تخابرك ، في حال قررت أن تستأجر المكان .
- لقد سبق وقررت ، ساستاجرة لستة اشهر.
وقف في غرفة النوم الاساسية ، وراح يتامل الجدران البيضاء العارية. والسرير الفردي الضيق ، ثم نقل ناظريه الى الخزانة التي تحتل جانبا مهما من الحجرة .كما لاحظ كرسيا منجدا وحيدا من المخمل الزهري اللون . ومرآة من الطراز الفيكتوري ، ابتاعتهما كلير من البلدة في العام الفائت .
بدأت كلير تشكو ، وهي لاتزال تمانع فكرة استئجاره كوخها : اخشى انك لن تكون مرتاحا هنا .
فرمقها بنظرة جافة وعلق : بل سأكون بخير، ما دمت لا تمانعين ان اجعل المنزل اكثر صلاحية للسكن ، اي ان اضفت بعض لوازمي الخاصة كرسوماتي وكتب وجهاز موسيقى .
ولم يكن باستطاعة كلير أن تبدي اي ممانعه . فاكتفت بتأمله وهو ينتقل الى النافذه ، لينظر الى البستان المظلم ، فيما ظله الطويل ينعكس على الحائط الابيض بطريقة مخيفة .
في الحقيقة ، لم يكن من السهل عليها ان تفكر في انه قد يعيش هنا ، في البيت الذي اعدته لنفسها . فمنذ اشترت الكوخ ، وهي تشعر بالحماس لهذا التصرف المليء بالتحدي الذي اقدمت عليه. ولما وصل الخبر الى اسرتها اجفل اهلها ، ثم مالبثوا ان وجدوا الفكرة مسلية ، قبل ان يشعروا بالسخط مجددا . فكيف تقدم على شراء كوخ متداع ؟ ومالذي دعاها الى ذلك بحق السماء ؟ بل لماذا تحتاج الى منزل مستقل ؟ فلديها منزل ، يجمعها بأبيها واخويها . اما لوسي ، فستتزوج قريبا وترحل لتعيش مع مايك في مكان ما. وحينها من سيعتني بمنزل العائلة ؟ من سيكون أما حنونا لروبن وجايمي؟ وقرأت كلير في اعينهم انها لاتستطيع الرحيل ، فهم يحتاجون اليها .
ولما كانت كلير تعرف ذلك . فارقتها كل نيه في هجرهم . فهي تتمتع بحس قوي بالمسألة وتحب عائلتها ، لكن فكرة الحصول على منزل مستقل ظلت تأتى على بالها .
واصبحت ، كلما احتاجت الى الهروب من مشاكل الواقع ، تلجأ الى هذا الكوخ . لذا ، كرهت أن ترى دنزل بلاك يقيم فيه . وعرفت انه ، لو سكن فيه اولا فسيراودها شعور غريب كلما اقبلت الى هذا المكان .
سألها : ايمكنني الانتقال الى هنا حالا ؟
فنظرت اليه كمن لا يصدق : ماذا تقصد بحالا ؟
- اقصد غدا .
- لكن غدا يصادف عيد الميلاد ، الن تكون مشغولا برؤية أهلك ؟
فقال بايجاز وبنبرة من يوصد في وجهها بابا : لا عائلة لي .
وتحرك فضولها على الفور . امات أهله ؟ اليس لديه إخوه او أخوات ؟ ولكن ، لابد ان له عمه او خال في مكان ! فكيف لاحد ان يكون من دون عائلة على الاطلاق ؟
ومالبث ان اعلن :لم نأت على ذكر الايجار بعد . فكم تريدين في الشهر ؟
لم تكن كلير فكرت في الموضوع ، لكنها تعرف المبلغ المطلوب مقابل ملكيات كهذه . لذا لم يتطلب منها الجواب ثوان ، وتعمدت أن تطلب منه ايجارا مرتفعا ، عساه يغير رأيه . لكنه أوما براسه :
حسنا ! قد نطلب من هيلين أن تجهز لنا عقد ايجار لستة اشهر .
فأجابت وقد ازعجها أن يقبل من دون أن يطرف له جفن :
فلندع ذلك الى مابعد رأس السنة . فكما تعلم ، لم تجد احدا في المكتب قبل ذلك الوقت .كما أن نزل بلاكبور يجيد الاحتفال بالميلاد وستكون مرتاحا اكثر هناك .
عندئذ رد بنبرة فظة :أنا اكره الميلاد ، واتحرق شوقا الى تفويته .
وما كان من كلير الا ان حدقت فيه بكآبه وسالته : أتكره الميلاد ؟ اتعني انك لاتحفل به اطلاقا ؟
- بالنسبة لي ،هذا اليوم يماثل غيرة من الايام . وهكذا ،سأنتقل الى هنا في الغد ، وامضي الوقت في ترتيب كتبي ورسوماتي بسلام . وسأعد حساء وسلطة للغداء. ولن اشاهد التلفاز ، او استمع الى المذياع طيلة ذلك الوقت ، بل سأكتفي بالاستماع الى الموسيقى أثناء عملي .
فتمتمت : أنا اسفة .
واذا بعينيه الرماديتين تلمعان بذلك الوميض الاسود الذي عرفته من قبل . وقال :
اذا كنت تاسفين من أجلي فلا داعي لذلك ، بل اشعري بالاسف على نفسك . ساكون سعيدا جدا هنا ، فيما اتجاهل الميلاد. ففي ذهني ذكريات بغيضة عن الميلاد التقليدي ، وانا متأكد من ان يومي سيفوق يومك تسلية وهدوءاً .
وراحت كلير تفكر في كل العمل الذي ينتظرها ، من جلبة الميلاد الصباحية ، الى ايقاظ الصبيان ، لمشاهدة ترانيم على التلفاز ، وكانت تحرص على ذلك . كي يتسنى للصبيان أن يسمعاها ، فيما يقومان بمساعدتها على مضض ، ويطلقان الشكوى ، وعيونهما تتألق حماسا . كما تذكرت هدايا الميلاد وهي تفتح ، ونباح الكلب وقد أثير حتى الجنون ، بسبب هذا النشاط غيرالمألوف . واستعادت رائحة ديك الحبش المحروق في الفرن ، فيما هي تسرع غاضبة لانقاذه ، وسط ضحك الصبيان . وعادت اليها ذكرى تدافعهما أثناء ترتيب المائده ، بينما لوسي تقدم الطعام ، وجدالهما وتشاجرهما ، قبل أن يتركا لها الفضلات لتنظفها .عندها ، يعمد أبوها الى النوم في كرسيه الهزاز ، فيما تقوم بغسل الاطباق مع لوسي ، ويخرج أخواها في نزهة في جو بارد جدا يصرفان فيها تلك الطاقة الزائدة كلها . ويهدأ البيت أخيرا حوالي الساعة ، فترتمي في كرسي قبل أن يعودا مطالبين بشطائر ديك حبش ، وحلوى الميلاد .
* رفعت نظرها الى دنزل بلاك ، وجهها البيضاوي الها دئ مفعم بالدفء و المرح
-سيكون يومى ساحرا . فتبدل وجهه وتعمد ان يتفحصها بنظراته :
ترى ، فيم كنت تفكرين ؟ في رجل ؟ أهو عشيقك ؟ لاترتسم هذه النظرة على وجه امرأة الا حين تفكر في رجل .
عندئذ تألقت عيناها بوميض جليدي ، ثم أشاحت بوجهها بعيدا ، وحانت منها التفاته الى ساعتها بحركة تنم عن فروغ صبر .
اريد أن اعود الى منزلي ياسيد بلاك . قد لاتحب الميلاد ، ولكنني أحبه . ومازلت بحاجة الى عدد من الهدايا ، عدا عن المهمات التي علي انجازها قبل ان آوي الى الفراش الليلة .
فعلق:
كما انك لاتحبين الاجابة عن الاسئلة .
تجاهلته ، وتوجهت نحو السلالم ، ورأسها يضج بمختلف الاعمال التي عليها أتمامها ، من الخضار التي تحتاج الى التقطيع والتخزين في البراد ، الى قالب الحلوى الذي عليها تحضيره .
ومع ن كلير تحب الميلاد ، الا انه يترافق عادة مع اعمال كثيرة ، لا يساعدها فيها احد .عادة ، يخرج ابوها مع اختها واخويها الليلة لينشدوا ترانيم الميلاد حول شجرة الميلاد الضخمة في ساحة البلدة . وهي عادة درج عليها أهالي البلدة عشية الميلاد بغية جمع الاموال للمؤسسات الخيرية المحلية . والاستمتاع بوقتهم . وكانت غالباً ما ترافقهم ، لكنها الليلة لا تملك وقتاً لذلك أبدا . وبلغت بها العجلة حد الانزلاق على الخشب المصقول للسلالم والوقوع الى الامام . وكادت تقع بقوة لو لم يمسك بها دنزل بلاك ، ويحيط خصرها بذراعيه . واذا بقلب كلير يخفق بين أضلعها تحت تأثير الصدمة . وبقيت ثانية أو اثنتين واقفة في مكانها ، لاتاتي حركة ، فيما هو يبقيها بين ذراعيه ، ولا يسمع الا نبضات قلبها . ومالبث ان مال اليها ، فأحست وكانه ينقض عليها ، فيما هي عاجزة ، لاتقوى حراكا . واذا بوجنتيه تلامسان خديها ، حتى شعرت ببشرته باردة ، ناعمة فسرت في جسمها رعشة حين خيل اليها انه سيعانقها . لكن كل مافعله هو سؤالها :
هل أنت بخير ؟
وكان السؤال من العنف بحيث انتشلها من غمرة النشوة وأعادها الى أرض الواقع . فحررت نفسها من قبضته بارتجاف ، ثم نزلت الدرجتين الباقيتين من السلم ، وهي تقول بصوت أجش :
نعم ، اشكرك .
واسرعت الى الباب الامامي ودنزل بلاك يتبعها من غير أن يكلف نفسه عناء اسراع الخطى .
ولما عادت كلير الى سيارتها ، تنفست الصعداء، ثم انطلقت بعيدا . لكن سعادتها كانت لتصبح أضعافا لو تخلصت من هذا الراكب ما ان تبلغ البلدة . لاسيما ان وجودها وحيده معه هو بمثابة تجربة مرهقة للأعصاب . وفيما كانا يسيران في شوارع البلده ، وقد اضاءت انوار العيد المتاجر، نظر اليها دنزل بلاك بجفاء ، وقال :
انظري الى كل هذه المتاجر بثلجها الزائف واشجار الميلاد ! بات الميلاد مجرد سلعة تجارية ، ولا يحمل اي معنى ديني منذ زمن .
فرمقته كلير بنظرة جانبية باردة :
هذا بالنسبة اليك ربما ، لكن عائلتي تواظب على زيارة الكنيسة . وسنحضر قداس منتصف الليل . ونحن غالباً ما نصلي عشية الميلاد ، فهذا الطقس الديني هو الاحب الى انفسنا . وتشترك لوسي واخواي في التراتيل ، وتكون الموسيقى رائعة دائما .
- دعيني اتكهن ... انها موسيقى آلات الغيتار.
أثارت نبرة الاحتقار في صوته سخط كلير ، فردت :
كلا ، لطالما كانت موسيقى الميلاد تقليدية ، وتتالف من ترانيم الميلاد ، او اناشيد لاتينية قديمة وكلاسيكية ، ونحن نملك آلة أرغن ممتازة . وتقول لوسي انهم سيغنون الليلة لموزارت وبليسترينا.
ثم توقفت عن الكلام وخففت سرعتها ، قبل أن تشير بيدها الى اليسار ، وتضيف :
هاهي الكنيسة . انها مصدر فخرنا ، فهي واحدة من ارقى الكنائس في هذه الناحية من انكلترا .
مال دنزل بلاك الى الامام ليحدق في المبنى العالي الذي يماثل مباني القرون الوسطى ، ببرج ناقوسة الذي يعانق السماء الحالكة ، وبسقفة المقنطر ، وجدرانه المبنية من حجر الصوان الرمادي . ويمتد حول المبنى فناء أخضر صغير يحيط به سياج حديدي من العصر الفيكتوري ، فيما الاعشاب تنمو حول الاضرحة القديمة ، التي تظللها أشجارمعمرة .
- لم لا تأتي الليلة وتستمع الى الأناشيد ؟
وما أن تفوهت بالدعوة حتى راته يقطب جبينه .
-لا اظن ذلك ، شكرا
- أخائف أنت ؟
رماها بنظرة من عينيه الضيقتين وسألها : ومما أخاف ؟
فأجابت بنعومة :
من السماح لروح الميلاد بالتغلغل فيك .
لوى فمه ، فيما ومضت عيناه وأجاب :
ربما ، وأنت ، مما تخافين ؟
زفرت بارتياح ، وأنكرت وهي تشعر بالتورد في خديها :
انا لا أخشى شيئا .
فسألها بسخرية:
حقا ؟ شعرت أنك كنت خائفة مني في كوخك .
تصلبت ، قبل ان ترد :
اذًا كنت مخطئا . فأنا لا اخشاك ياسيد بلاك ، وانما احذر منك وحسب ، فلقد رأيت التأثير الذي تحدثه ، واعرف من اي نوع انت . ولانية لي في ان اصبح احدى ضحاياك .
ظهر الغضب على ملامحه ، وأظلمت عيناه وهو يسألها :
احدى ضحاياي ؟ ماذا تقصدين بحق الجحيم ؟
ولما كانا بلغا بلاك بور ، توقفت كلير عند المدخل الرئيسي وأعلنت وقد اشاحت بوجهها عنه :
ها قد وصلت ياسيد بلاك .
لكنه لم يترجل من السيارة ، بل لبث فيها ، وهو يتفرس في الوجة الذي بقي يتفاداه . وبعد دقيقة ، قال بجفاء:
لست متأكدا عما تتكلمين ، لكن اذا كنت تقصدين بيلا دكلان ، فأنا لم ادمر حياتها ، بل المخدرات . ولقد ادخلتها الى عيادة ، لكنها تركتها مجددا ، لانها لم تكن مستعدة لمحاربة إدمانها ، ولعلها لن تنجح في ذلك ابداً فقد استغلت في طفولتها ، مما اثر عليها لسنوات . وبيلا فتاة مريضة جدا ، وما المخدرات الا سبيلها للتغلب على الذكريات التي لا تستطيع مواجهتها. عليك الا تصدقي كل ماتروية الصحف يا آنسة سامر ، فهي غالبا ماتبالغ ، وتنشر الاكاذيب .
- ولكن ، اكانت مغرمة بك حقا ؟
وحمل صوتها نبرة فراغ صبر ، فأجاب :
لعلها ظنت ذلك ، لكن مدمني المخدرات يعيشون في عالم خيالي ، ولا يمكن ان تصدقي كل كلمة يتفوهون بها. أدارت كلير رأسها ، ونظرت اليه بازدراء حارق . ولما التقت عيناهما ، استحال لونها أحمر داكنا . فهتف بحدة :
لا تنظري الى على هذا النحو . فأنت تجهلين كل شيء عني . مالذي يجعلك تعتقدين أنك تستطيعين الحكم علي ؟
- لن انبس ببنت شفة ، والآن ، هل تمانع الترجل من سيارتي ؟ فما زال أمامي الكثير من الاعمال ، وانا على عجلة من امري ، حتى ولو لم تكن أنت كذلك.
لكنه لم يتحرك ، بل تعمد أن يسترخي ، فأسند ظهره على المقعد ، ووجهه ملتفت اليها . وفيما رأسه مرتاح على يد ، راح ينقل نظره عليها ، في نظرات بطيئة متوانية . وحرصت كلير على ان تبقى متيقظة تماما .
- شعرك يشبه ضياء القمر ، كما اسمك بالفرنسية . ألهذا أطلق عليك أبوك هذا الاسم ؟ أكان لشعرك هذا اللون حين ولدت ؟
فأجابت باختصار وهي تشعر أن خصلات شعرها تضايقها عند العنق :
أظن امي احبت اسم كلير ليس الا .
وفكرت في عينيه المتألقتين ، وقد اختفت فيهما ارادة تقلق راحة بالها . ومالبثت ان اعلنت :
والان ، هل خرجت من سيارتي اذا سمحت ياسيد بلاك ؟
- في منزل البحيرة السوداء سيارة فيها حاجياتي الخاصة ، وهي في الاسطبل المقفل . واريد أن انقلها الى كوخك ، وافرغ محتوياتها في الصباح فهل لي بمفاتيح الكوخ اذا سمحت ؟
ترددت كلير أولا ، ثم مدت يدها الى جيبها على مضض ، وسلمت مفاتيح كوخها . ولما تناولها منها تلامست أناملهما برفق ، فاضطرت الى كبت الرعشة التي سرت في اوصالها . وراحت تقنع نفسها ان بشرته باردة ليس الا ، وأن لمسته لم يكن لها اي تأثير عليها .
وتلألأت السخرية الباردة في عينيه حين قال :
أشكرك وسأتمادى . فأتمنى لك ميلادا مجيدا ايضا . وارجو ان تكون عطلتك سعيدة بقدر عطلتي.
فردت بحده :
شكرا ، وأنا متأكدة من أنني سأكون أكثر سعادة . ففي الميلاد ، كما في غيره ، يحصد المرء عادة مايزرعة.
ضحك وأجابها :
أتقصدين أنني أستحق قضاء الميلاد وحيدا ؟ اسمعي ، انتظريني هنا دقيقة ، أريد أن احضر شيئاً وسأعود في الحال .
وقبل ان تتمكن من الكلام ، خرج من السيارة ، فما كان منها الا ان راقبته وهو يدخل المقهى القديم . ترى ، ماذا يخطط الان ؟ ثم نظرت الى ساعتها وقد عيل صبرها . يجب عليها أن تعود الى البيت ، فيكفي ما أضاعت من وقت على دنزل بلاك . وفيما هي غارقة في افكارها ،عاد وهو يمشي بتمهل ، ثم استقر في المقعد الامامي مجددا ، فالتفتت اليه كلير بتساؤل . ماذا ذهب ليحضر؟ وبعد ثوان معدودة ، رفع ما في يده حتى أخذ يتدلى فوق رأسها . فرفعت وجهها بحركة غريزية ، وأبصرت الساق الخضراء ، والاوراق الخضراء، وحبات التوت المتلألئة الصلبة . إنه نبات الهدال !
تمتم :
بما أنك تبدين كأحد الوثنيين في طقوسك ، فهذا طقس يسعدني المحافظة عليه .
وما إن اتم كلامه ، حتى مال نحوها وعانقها عناقا خاطفا ، لكنه خلفها ضعيفة ، لاهثة ومصعوقة .
لبثت في مكانها صامتة وتشعر بالدوار ، فيما خرج دنزل بلاك من السيارة ، من غير أن يضيف كلمة أخرى . ومن العجب أن كلير لم تنطلق في الحال وسرعان ما توقفت سيارة أخرى خلفها ، واخذت تحثها على المسير . فأدارت المحرك على غير هدى ، وتوجهت نحو الطريق العام ، حيث كادت تصطدم بحافلة . ولحسن الحظ ، لم يكن السائق مسرعا فتمكن من الفرملة قبل أن يصدمها .
وهنا ، استجمعت كلير أنفاسها وقد تملكها الرعب . ثم أومأت الى السائق باعتذار ، ومضت الى بيتها وهي ترتعد.
في الواقع ، كانت مسرورة بمهماتها العديدة هذا المساء ، فالعمل اكثر أمانا من التفكير . وكلما فكرت ، كلما أحست برأسها يدور، إذ لم تصدق هذا الشعور الذي ولد فيها لما عانقها . بدا لها وكأنه زلزال ، مازالت تشعر بهزاته حتى اللحظة .
لكن ، بدا ان أحداً لم يلاحظ ذلك التغيير فيها ، لاسيما أن عائلتها كانت تستعد للذهاب للمشاركة في انشاد الترانيم .
وطمأنها والدها :
لقد أحضرنا طعاما صينيا من المطعم ، فلا تقلقي علينا . هل تدبرت مكانا يسكن فيه السيد بلاك ؟
فنظرت كلير الى لوسي ، التي دافعت عن نفسها ببراءة :
قلت لأبي انني أظن أنك ذهبت لهذا السبب . وقد عرفت أنك لن تتركي الرجل المسكين في نزل طيلة فترة الميلاد!
عندئذ، ردت باقتضاب : نعم ، وجدت له مسكنا .
فنظرت اليها لوسي بحماس لم يعجب كلير ، وسالتها : أين ؟
-في منزل جديد ، عرض للايجار في الامس . وهو خارج البلدة ، وغير بعيد عن البحيرة السوداء .
عندها ، هتفت لوسي بنعومة :
يمكننا ان نساعده على الاستقرار . فلا شك أن رجلا يعيش وحده بحاجة الى المساعدة .
- بل لا يحتاج الى اي مساعده ، وهو قادر على التصرف وحده . أما إن عانى من مشاكل ، فلديه من المال مايمكنه من حلها .
ثم حانت من كلير التفاته الى ساعة الجدار وقالت: ستتأخرون .
فأطلق روبن شكوى صارخة : انها محقة ، هيا بنا!
أسرعوا الخطى ، على أن يعودوا لاحقا مع باقي أعضاء الكورس ليتناولوا طعام العشاء، قبل ان يذهبوا الى الكنيسة عند منتصف الليل . أما في الوقت الحالي ، فتستطيع كلير الاسترخاء والاستمتاع بمساء هاديء وهي تعد الطعام وتستمع الى الموسيقى, وبما أنها ستنصت الى الترانيم لاحقا في الكنيسة ، فقد قررت الاستماع الى الكونشيرتو الثالث والعشرين لموزارت وهو المفضل لديها . وأسرعت لتضيف الخضار الى حمل ضخم ، ثم أدخلت المزيج الى الفرن استعدادا للعشاء ، وفي انتظار نضوجة يمكنها ان تحضر الفطائر المحشوة ، التي خبزت كمية كبيرة منها ، سيلتهمها أعضاء الكورس بلا شك .
كانت الغرفة المتصلة بالمطبخ باردة ، لا تشملها التدفئة المركزية . لهذا ، فهي منعشة صيفا ، جليدية شتاء . وقد وزعت فيها طاولات طويلة ، صفت فوقها قوالب حلوى بالكريما ، زينت اعلاها بخيوط متعددة الالوان من السكر ، وقطع حلوى برتقالية وحمراء وخضراء ، فبدت كأنها مجوهرات متلألئة في أوعية زجاجية .
المنزل بكاملة يعبق بروائح الميلاد ، من اكواز الصنوبر ، ونباتات البهشية واللبلاب التي قطفها والدها واخوها قبل أيام ، فعلقوها حول أطر الصور وعلى الشرفات والنوافذ وزينوها باشرطة لماعة ، وأوراق حمر وذهبية . كما انتشرت رائحة الطعام في أرجاء المنزل ، وهو بدوره شهي وغريب وغني ، من بلح وجوز ، الى زبيب وأناناس ، فأكواب العصير وأطباق اللحم .
وكانوا قد رتبوا البيت استعدادا للميلاد ، كعادتهم في كل سنة . فالأشرطة المتدلية في كل غرفة ، وأجراس الميلاد تمتد من السقف وتتوزع هنا وهناك ، فيما شجرة الميلاد تزين غرفة الجلوس قرب النافذة ، وتملأ الجو بعبق الصنوبر . والشجرة في غاية الجمال ، مزينة بالكرات الزجاجية ، وغيرها من أدوات الزينة .
وتهالكت كلير على كرسي بذراعين قبالة النار، وبيدها فنجان قهوة . وراحت تنظر الى الشجرة بعينين ناعستين ، فيما الغرفة غارقة في ظلام طفيف ، لايبدده لا نور مصباح صغير . لابد أن الاخرين سيعودون ادراجهم قريبا ، لكنها تعبة الان ، وينتابها ذلك الوهن الجسدي اللذيذ . سرعان ماتثاءبت وهي تتمدد بكسل مشغولة البال ولم تمض دقائق حتى اغمضت عينيها ، وراحت في أغفاءة خفيفة .
وفجأة ، دخل دنزل بلاك الى الغرفة ، وقد انعكس طيفة الاسود المألوف على الجدران ، حتى كاد يبتلعها . لم تكن قد أدركت قبلا أنه بهذا الطول ، فقد بدا لها أن رأسه يلامس السقف ، فيما قامته رفيعة كخيط الدخان ، تتلوى نحو الاعلى . واذا بدمها يمسي باردا ، ليستحيل حارا مجددا ، وعجزت عن التنفس , او الكلام وشعرت أن سرا غامضا يمنعها من الحركة .
تطلعت اليه وهي تناضل لتتحرر، وتنهض . لكنه بادلها النظرات ، وابتسامة جافة غريبة على وجهه ، وعيناه الرماديتان شاحبتان وكأنهما خضعتا للتنويم المغنطيسي ، فيما قوة ارادته تقضي على كل مقاومتها . وشعرت بشفتيها تحترقان وكانه يقبلها ، تبع ذلك احساس بوهن شديد سيطر عليها . وبدا لها انه يطفو في أرجاء الغرفة بصمت ثم دنا حتى بات فوقها ، فحبست كلير أنفاسها . عندئذ ، أخذ فمه يقترب من عنقها ببطء ، وهي تراقبه بانفعال وضعف ، وتتوق الى لمسته . وتدفق الدم في شرايينها وأحست كأنه يمتص حياتها مع دمها . وما لبثت أن شعرت بالاغماء تدريجيا . فراحت تتنهد بمزيج من الرعب والاثارة ، واغمضت عينيها مجددا ، حتى لفها الظلام تحت جناحه.
وصفق الباب في مكان ما ، فأجفلت كلير بعنف . أكانت نائمة طيلة هذا الوقت ؟ كان باب غرفة الجلوس مشرعا ، مما سمح للنور أن يتسلل من الرواق الى الغرفة . واذا بها ترى دنزل بلاك بغتة ، وهو يقف عند العتبة يراقبها .
ارتجفت كلير . هل حدث ما حدث فعلا ؟ أم كان مجرد حلم ؟ ترى أهي تحلم الان ؟ وهل تحقق منامها ؟ اسيطفو في أرجاء الغرفة ثم ... ؟
واقبل من خلفه لوسي والصبيان وهم يضحكون ، وقد علت وجوههم حمرة البرد والاثارة ، فيما أبوها وبقية أعضاء الكورس يتجمعون من خلفهم .
واذا بصوت يصدح : ميلاد مجيد ، كلير!
وارتفع صوت آخر : هل أيقظناك ؟ ياللأسف!
وكشر روبن : ظننا أنك انتهيت من إعداد الطعام أيعقل هذا ياكلير ؟ اننا نموت جوعا!
ثم تقدمت لوسي لتدير زر الكهرباء الرئيسي ، وهتفت :تفضلوا جميعا .
وغمر الغرفة نور مشرق بهر كلير وهي تنهض من كرسيها . وجلس أعضاء الكورس في مقاعدهم وهم يضحكون ويتحدثون ، وكل منهم يحاول الاقتراب من النار، في حين انشغل بعضهم بتحية كلير وتهنئتها بالعيد .
ومع أنها لم تنظر الى دنزل بلاك ، الا انها شعرت به يراقبها . ماذا يفعل هنا بحق الله ؟ وكيف تمكن من الانضمام اليهم والاحتيال ليدعونه ؟
وهنا تكلمت لوسي ، وهي تنظر الى دنزل وعيناها تتألقان اشراقا وعلى شفتيها قطرات ندية .
- لقد سمعنا دنزل ونحن نغني فيما كان يسير في الشارع ، فتوقف لينصت الينا ، وبقي مدة طويلة . وبالفعل . كان أفضل مستمعينا.
دق ناقوس الخطر في ذهن كلير ، في حين تابعت لوسي :
دعاه ابي لتناول العشاء معنا . والطعام وفير ، اليس كذلك ؟
فأجابت كلير بتيبس ، وقد اقشعر بدنها وهي تشاهد أختها تبتسم له : طبعا .
منذ تعرف دنزل بلاك الى لوسي ، وكلير تخشى هذه اللحظة ، ولم تشأ ان تبعد لوسي عنه لاميال , فحسب بل جهدت لفصلهما عن بعضهما البعض كليا . لكنها أدركت الان ان اختها لن تستمع الى تحذيراتها بسهولة . وهنا تقدم والدها : أتحتاجين لمساعدة ؟ أيها الصبيّان ، تقدما وساعدا شقيقتكما , لوسي ، احرصي على راحة ضيوفنا ، وقدمي لهم الشراب .
وأعلنت كلير وهي تخرج من المطبخ : لقد أعددت الشراب ، وسيحضره روبن في الحال .
-مم ... يبدو لذيذا .... ماذا وضعت فيه ؟ هل لي بكوب ؟
- انه محضر أساسا من عصير الفاكهة ، اضافة الى التوابل ، لكنني أضفت اليه أيضاً شراب الكرز . يمكنك الحصول على كوب طبعا ، فلن يضرك أن لم تكثر منه.
وتقدم جايمي بسلتين مليئتين بالخبز الفرنسي ، ثم سألها مقلداَ أخاه : هل لي بكوب أيضا ؟
وشرعت تراقب اباها ، وهو يلبس القفازات , ويخرج الطعام من الفرن بعناية . ثم سالته :
هل الصينية ثقيلة عليك يا أبي ؟
فطمأنها : بل أنا بخير .
كانت قد أعدت المائدة مسبقا ، ووضعت السكاكين والاطباق والمناديل الورقية . القت حولها نظرة أخيرة لترى ماذا ينقص بعد ، فأبصرت شخصا يدخل الغرفة ببطء ، مشرق العينين وعلى وجهه سحر متملق .
- مرحباً كلير ، هل يمكنني مساعدتك ؟
بدا على ملامحها أنها غير مصدقة :
هال ! لم الاحظ أنك مع الكورس ، هل عدت الى البلدة لقضاء الميلاد ؟
منذ ثلاث سنوات ، وقعت كلير في حب هال ستيفنز ، وآمنت أنه يحبها أيضا ، الى ان تزوج فجأة من امرأة أخرى ، وانتقل بسرعة من البلدة ، ليعيش في يورك مع زوجته الجديدة .
وكتب لكلير رسالة يشرح فيها الوضع ، لكنه بعث بها ليلة زواجة المفاجيء فكان ان سمعت بالخبر من جار ، تعاطف معها بشدة ، الا انه وفي الوقت نفسه ، غمره الفضول ليرى تعابير وجه كلير المصدومة .
ولم تتسلم الرسالة الا بعد مرور يومين ، وشرح فيها انه تزوج المرأة الاخرى لانها تنتظر منه مولودا . وصعب على كلير أن تتذكر كيف شعرت في باديء الامر . انما تملكها احساس بالكرب وعدم التصديق . وعاشت لاشهر كإنسان آلي ، بالكاد يدرك المرء مايفعله أو يقوله ، وانما يكتفي بالعيش . ومع الوقت ، تغلبت على المشكلة ، لكنها باتت حذرة جدا ، وعلى قدر من التشاؤم وشديدة الاحتراس في مايتعلق بالرجال .
ولم تدرك أنها نفدت بجلدها إلا لاحقا , حين استوعبت رسالة هال المثيرة للشفقة . وقد كتب فيها انه لا يحب زوجته الجديده ، بل ربطته بها علاقة قصيرة حين قضت عطلتها في غرينهاوي . في تلك الفترة ، كانت كلير مشغولة جدا ، فشعر بالوحدة ، ثم أحس انه وقع في فخ لما حملت ستيفاني منه ، لكن كلير مازالت المرأة التي يحب . ولاحقا ، شعرت كلير بالاسف على زوجته ، ما أن بدأت تفكر بصفاء مجددا . فأي نوع من الزواج هذا ، حين يتحدث هال بهذه الطريقة عن زوجته ، ويكن لها هذه المشاعر . لوكرهت كلير الامر لو عرفت أن رجلا ما يتحدث عنها على هذا النحو ! بعدئذ ، سمعت كلير ان ستيفاني تشارف الثلاثين من العمر، ولا تتمتع بقدر من الجمال ، ولكن أهلها أغنياء ، وشبكة أعمالهم واسعة مزدهرة وبعد ان تزوج هال من ابنتهم ، شغل مركزا مهما كمدير مبيعات وبلغ ربحة حدا لابأس به.
رد عليها بابتسامة : كنت أغني مع أعضاء الكورس ، واصر والدك على مجيئي .
لطالما دللت والدة هال ابنها ، فظن أنه يستطيع استرضاء أي امرأة ولعله نجح مع معظم النساء .
أما كلير ، فلا ، نظرت اليه ببرودة وفي عينيها الزرقاوين سخرية واضحة .هذه المرة ، لن تقع أسيرة سحره ، لن تقع ثانية أبدا . فهي تعرفه جيدا .
-قلت له انك لن ترغبي في رؤيتي مجددا . لكنه أكد أنك نسيت الامر وسامحتني على مامضى ، وأنه الميلاد على كل حال ...
وفاضت عيناه الزرقاوان تفاؤلا .كان اشقر ، ناعم البشرة ، وعلى وجهه سمات طفولية ، وسحر فائض تعود أن يتكل عليه . مما دفعها الى التساؤل عما عساه يفعل حين تمر عليه السنين ، ويفقد ذلك السحر الصبياني الذي يتميز به .
- هل عدت لقضاء الميلاد مع أهلك ؟
وكانت تعرف أن أباه وأمه أمضيا الميلاد المنصرم مع زوجته وطفلهما . وأبوه يملك متجر خرداوات في البلدة ، وقد التقته في أحد أيام الربيع الفائت ، فراح يتحدث بلا هواده عن حفيده ونجاح ابنه متجاهلا ما اقترفه ولده في حقها . الا ان زوجته لطالما بدت محرجة عند لقائها بكلير .
-هذا صحيح . وحين مررت بتاون هول ورأيت الكورس يغني ، لم استطيع مقاومة الرغبة في الانضمام اليهم . وقد استعدت العديد من الذكريات الجميلة.
ثم أخفض بصره وتنهد ، قبل أن يردف :
كلير.... من الرائع ان اراك . انت اجمل مما اتذكر ، وانا لم انسك مطلقا ، وانت أيضا ، أليس كذلك ؟
فأجابت بحدة :
في الواقع ، بما أنك متزوج ولك طفل . فعد الى الباقين يا هال ، واتركني وحدي .
أمسكها بكتفيها ، وقد علت الاثارة وجهه :
-سأفعل بعد دقيقة ، ياكلير , ولكن امنحيني قبلة واحدة أولا .
كانت على وشك أن تدفعه بعيدا عنها ، حين أمسك به شخص آخر ورمى به الى أقصى الغرفة .
-لقد سمعتها ! أخرج من هنا !
فعجزت كلير عن التعبير . وما كان منها الا ان حدقت في دنزل ذاهلة وقد اتسعت عيناها الزرقاوان ارتياعا .
أما هال ، فاصطدم بالجدار عند الباب محدثا صوتا مكتوما . وملأ الغضب وجهه الوسيم ، ثم تطلع الى دنزل وهو يشد قبضتيه استعدادا للعراك .
فنصحه دنزل بنعومة : لاتفكر في ذلك حتى !
توقف هال فجأة ، وكأنه يعيد التفكير في الامر لاسيما بعد أن سمع نبرة دنزل الامرة . بدا مترددا ، قبل ان يحملق فيه ويدمدم : لاتستحق العناء .
ثم اختفى . أما دتزل ، فنظر الى كلير وقال متشدقا :
أهذا هو الشخص الذي وضعك في مخزن بارد ؟ كنت أعرف أن الامر يتعلق برجل . فلا بد من وجود سبب لهذه الطبقة الجليدية التي أصطدم بها كلما تكلمت مع امرأة جميلة مثلك .
فأجابت كلير بحدة :
ولم تفكر طبعا في ان حدتي تعود لتصرفاتك ! اذا لم يغمى علي في الدقيقة التي رأيتك فيها ، فهذا لا يعني أني أشكو من عيب .
بدا متسليا :
شيء من هذا القبيل ،عرفت أنك مررت بتجربة فاشلة ذات مرة ، لكن علي الاعتراف بأن ذوقك قد خيب أملي . ماذا أعجبك في هذا الرجل بحق السماء ؟
فأجابت وصوتها يقطر جليدا :أما أنا ، فكنت أتساءل مالذي يعجب النساء فيك .
ومالبثت أن اخرجت وعاء كبيرا من القشدة ، وناولته إياه قائلة :
هلا تكرمت وسلمت هذا للباقين ؟
لكنه لم يطعها ، بل نظر اليها من خلال أهداب كسولة ، وابتسم ، ثم أضاف :
ألا اتلقى شكرا لأني وفرت عليك عناء صفعة ؟
فتمتمت بفتور : شكرا .
وسرعان ماقهقة :
في يوم ما علي أن اكتشف أن كان الدم يسري في شرايينك .
وابتعد حاملا الوعاء ، فيما تسمرت كلير في مكانها وهي تحدق فيه ، وجسدها يرتعش ، وقد تذكرت الحلم الغريب ، اضافة الى الرعب والانفعال الذين تملكاها
أنت تقرأ
البحيرة السوداء للكاتبة شارلوت لامب
Romansكنت اللعبة التي تسليت بها، أليس كذلك ؟ لقد تجاهلت كل احتجاجاتي . واستغليتني بإحدى ألاعيبك الصبيانية، ولكن يمكن لشخصين أن يشتركا في اللعبة... والآن حان دورك لتكون لعبتي ! دنزل بلاك مصاص دماء عاشق ينتقل من امرأة هدها اليأس الى أخرى أسيرة الحزن... وه...