الفصل الرابع: مثل الرياح
مرَّ اليَوم التالي بِروتين مُمل، كانت الفتاة تَشعر بِشيء مِن الضِيق والانكماش حتى بَدى الشحوب على مَحياها انها تَعّرف السَبّب. فهي لَم تَخرج مُسبقاً، كانت تَسيرّ بالشارع وهيَ ترتجف برداً حتى انها كانت تَدعك يَديها الواحدة بالأخرى. بَسمت له ببَشاشَة عِندما وَجدتهُ بانتِظارها تحتَ اشجار الكاليبتوز ومَضّت اليه، اما هوَ فَقد كان مَأسوراً بها حَتى انه وثبَ مِن كرسيه وظلَ يُحدق بعَينيها، ثمّ حولَ بَصره الى يَديها فقد كانت تَفرّكهم، علت ابتسامة على وجهه وتملّك يديها ليدَفّأها. أرّتَبكت وتَحيرت الفَتاة، وابتَغت عَدم اظهار اضطِرابها، فقالت مبتسمة.
_يَديكَ دافئِة.. جداً.
_وانتِ يديكِ مُتَثلجة!
واردفَ قائلاً.
_سَأدفيكِ..
قالت الفتاة، وهيَ مُتناسية قوله.
_هلا ذَهبنا الآن؟
_بالطَبع، تَفضلي يا آنسة..
الطَريق لَم يكن بطويلٍ جداً، سَرحت بالمناظرّ التي امامها. كانت الاراضي الشاسِعة في الافقِ ذات خُضرة بَهيجة، تُنعشُ المُتأمل. المَنطقة بَعِيدة عَن التمّدن ان صحَ التَعبير، لكن لها بَهاء وفُتنة واضِحة لَدى الزوار، كانت اكوام الثِلوج تَسموا الجِبال المُمتدة، وقد علتْ الشَمس مِن بين الغِيّوم لتُضفي وضاءة جَمّالية رَقيقة للسَماء الزرّقاء اللطيفة..
لَم يدرّ أيُّ حَديثٍ بَينهما، فهوَ كان يَقود السيارة ولَم يَرفع عينيه عَن الطريق، كانت الفتاة تتَأمّل بِهدوء، شعور بالرّاحة والرَويّة اجتاح روحها.. قرأت لوحة بالطريق وقد كُتب عليها "مَصيف سرجنار" عندها وجهت رُؤياها نَحوه، وسَألته.
_أأننا ذاهبون الى…
لَم تُكمل كلِمّاتها حَتى أجابها مُتبَسماً.
_نَعم، أتمنى ان تأنسي بالمَكان!
كان مَصّيف "سرجنار" واحداً مِن المصّايف المَعروفة والذائِعة بِمدينة "السُليمانية" ولا يَبعد عَنها كثيراً، فيه مطاعم وحدائق. مكان جيد للتَلذذ والتنعّم..
اوقفَ السيارة، فتَرجلت مِن مَكانها مُتأملة وهو أيضاً. كلٌ واحدٍ مِنهما كان يَجولُ بِبصرهُ متفحصاً. عندها اشارَ إليها الشاب بأن تَتَبعّه، قادها بَين الحديقة المَكسوة بالخُضرّة الكثيّفة وظَلا يَسيران بِبُطء تحاورا عَن الحياة المُّتمدنة ومصاعبُها، ان صحَ التَعبير فأن الشاب هوَ المُتكلم وهي دائماً المُستمعة!
سألها ان كانت تودُ الجلوس فِوافقّته، فَقعدا على العُشب الرَّطب. كانت الأنسام تُداعب وجهها وتُحرك خصلات شَعرها الداكن، الشاب ظل يُدقّق بمعالّم وَجهها..
مَر الوَقت وبدأت الشَمس بالمَغِيب، اخذها لمطعم وطَلبا "المَشويات" استَفهم بلَباقة عَن طَبيعة عَمّلها، حدّثتهُ عَن الاطفال ومَدى هِيامِها بِهم. فَوافَقها قائلاً بأن الأطفال ملائكة وانهُ يَعشَقهم حدَّ الجنون..!
مَضى اليَّوم وإنقَضى، في طَرِّيق العَودة شغَّلَ الشاب بَعض الأغاني "الكردية" التَقليدية القدِّيمة، عرَّفَ بأنها تُفضل كل شيء قَديم وتُراثي. بَغى عِنوانَ مَنزلها فأجابَته قائلة.
_شارع "سالِم"
_مَنطقة ساكِنة..
_وتَستَطيع الإستنباط بِأنها راقية!
واردَفت قائلة.
_هُنا مِن فضلك.
تَرجلا مِن السيارة ووَقفا امام مَنزّل الشابة المُظلم، كانَ الشاب متحيراً ومتسائلاً فلَم يُفكر يوماً بِأنها تَعيش بمثلِ هذا المَنزّل الخاوي! رغمَ هذا فهوَ يشدُ الانتباه، يَمتلك شيءً مِن الرقي والحداثة، بدى لهُ بِذهنهِ بأنها تَعيش بمفرَّدها هُنا.. قَطعت الفتاة سَيلَ افكارهُ المُتدّفقة بِقولها.
_شكراً لِلُطفك، لم اقضِ ايّ وقتٍ مُمتع كَهذا مِن قَبل.
_أنا الَّذي اود شكركِ، لَن انسى هذا اليَّوم المُبهج ابداً.
ارادَت الفتاة الدُخول لكنهُ قاطَعها قائلاً.
_إنتَظري..
كانت هُنالكَ رَجفة بِصوتهِ المُترَدد، جزءٌ مِن السعادة ظَهرَ بِعينيه اللامعة بِرغمِ الظلام الَّذي يعانقها، لكنها تَعقل ذلك.
تأملته وهوَ يَأخذ انفاساً عَميقة داخلَ رأتيه، خالَ لها بأنه متوتر، حيثُ ان يدهُ مَضت داخلَ خصلاتِ شعرهُ الكثيف. ومَست رَقبَته مِن الخلف!
_انا وحَتى الآن.. اجهلُ اسمكِ.
فاجأَتها كَلماته، وفي الاون نَفسهُ تَلهفت لسؤالهُ عَن اسمه!
_بَغيتُ ان اسألكِ مِن قَبل. لكنكِ دائماً تَرفضين، ولا اعقَل السَبَّب..
_اسمي "هيفين"
كمَن تملكَ الكون كانَ شعوره، شَقت ابتسامة عَميقة وجهَه، واخذَ خطوات مُقتربة مِنها.
_هيفين، هالةُ القمر!
_اجل، هالةُ القمر.. وانت ما اسمك؟
_علي.
كانا يَتكلمان بِلغة بَكماء. لن يَعقلها احدٌ غَيرهُما، نظرات حامِلة لِلذة والعُمق! هُما يرقُصان بعالمٍ بعيدٍ عَن الواقع، نغمٌ خفِي ودقاتُ قلبٍ تَفضح كلاً مِنهُما..
لاتَ الزّمانَ يمُر، ويَبقيا هكذا مِن دوان ايّ خطوة لِلبعيد المُهيب.
_الوَقت تَأخر.
لَم تَفتها الرَّجفة الطاغِية على صَوته، اجابتهُ باسِمة.
_جداً!
واكملت قائِلة.
_اود لكَ لَيلة مُريحة يا.. عَلي.
عشقَ إسمهُ مِن شَفَتيها، لَم يَستطع كبحَ ابتسامتهُ الَّتي شَقت مَحياه.
_ولكِ هيفين..