الفصل السادس
تعلقت النظرات بالضابط... ليردف عمها قائلا بحيرة
-ايوه...
أجابه الضابط بنبرة باردة
-أحنا مباحث الأموال العامة ..
تبادل الجمع النظرات ،ليضيف الضابط بعملية
-مطلوب القبض على أمجد المنصور بتهمة الاختلاس...
توعك وهبوط شعر به والد أمجد فسارعت أُمنية بمساعدته...
وبعد مرور ساعة
جلس الجميع في حالة حداد... لقد اختلس أمجد مبلغاً طائلا هو وشريكة له سيدة أعمال وغادرا البلاد هاربين...
الاب ينكس رأسه بألم... والأم دموعها لاتتوقف ومناجاتها لا تهدأ
-ليه كده يا ابني دا جزاتنا......
أما الآخرى فتكومت في ركن منزوي بعيد... وصورته مع تلك السيدة تنهال عليها بمطارق... وكلمات قصة العشق في الصحف والمجلات تحطم قلبها لأشلاء... .تركها في يوم كتب كتابهم ..هرب تاركاً خلفه الخزي ..اختار نفسه وتركهم يواجهوا المجتمع... بفضيحة... .تلوكها الأفواه ..لقد دنس صحيفة والده مدير البنك السابق...
أما هي فتركها ضارباً بمشاعرها عرض الحائط... اناني... هل كانت غبية حتى لا تعلم مدى أنانيته أم مغيبة... .منساقة خلف الوهم...
وما بين الجميع كانت أُمنية حائرة ..مُشفقة على بتول... وحزينة على والدها... ساخطة على أمجد... وعمها الذي ركن بعيداً يعطيهم ظهره شارد في مغيب الشمس...
فسارعت بقلب وجلّ وخطت رسالة استنجاد... ودموعها تنساق غامرة تلك الكلمات
-الحقنا ياعبدو... .
ً
***********
زوبعات من الخوف اثارتها رسالة أُمنية ،وما يثير زعره ويتراقص على أوتار قلقة هو الأختفاء الغير معتاد للجميع... الهواتف مُغلقة... لا سمة تواصل موجودة...
جلس أمام طاولة ،وضع عليها كوب... .قهوة...
أيام بعد رسالة أخته القلق ينهشه ،لذا حسم قراره... .واغلق عقلة على فكرة النزول ورؤيتهم... .
وفي المساء وأثناء تقلبة وصلته رسالة صوتية مختصرة ،لم تزده سوا رعباً... .
(بتول... ..صمت تام... لتضيف بحشرجة بكاء... بتول تعبانة أووي ياعبدو... .ساكتة... حزينة باهتة وعمك تعب بجد... .ونقلناه المستشفى... وبابا ساكت وقافل على نفسه... أنا خايفة عليهم... .
انقطعت الرسالة وانقطع معها انتظام انفاسه ..أمسك هاتفة واتصل بأحد زملائه يخبره بجدية
-احجزلي ..رجاءا النهاردا يا سامر ..
فجاءت اجابته مختلطة بذهوله
-ليه ..؟... مش لسه ميعاد حجزك ..؟
ضغط خصلاته التي استطالت ليضيف وبأعين شارده
-معلش اتصرف لازم بالكتير بكره ..
أجاب الآخر بعد أن تنهد بقلة حيلة
-تمام ..هشوف وارد عليك .
جلس بإنهاك محاولا الاتصال بأمنية لكن لافائدة مغلق... ضرب الفراش بقبضته... لما لاتفتح وتطمئنة ..وأين أمجد من كل هذا... ؟
***********
وصل لباب شقتهم ..تأمل البناية بشوق لم يستطع مداراته
رغماً عنه حادت نظراته لشقة عمه... لفحته نسائم الذكريات ....وحين امتدت انامله لدق الجرس... خرجت هي وكأن الارواح على لقاء...
وقفت تطالعه لدقائق ..بدت طويلة... التقت الأعين في حديث صامت... غامت عيناها بدموع ..لا تدري شوقاً أم حزناً... .
تأوه مكتوم نازع ليخرج من صدره وهو يراها باهته حزينة ذابلة... .لكنه لملم عشقه مدسراً له بخزية منها...
-ازيك يا بتول ..
تركض تحتضنه بقوة... تعبق أنفاسها من رائحته... تبكي على صدره كما كانت تفعل في صِغرها ..
اجابته مُسبله اهدابها... تخبئ نظراتها المنكسره عنه... ولا تدري أن قلبة هو المحطم لأجلها نظراتها تلك تنحره...
همست وهي تعود ادراجها
-ازيك أنت يا عبدالرحمن... حمدالله على سلامتك...
خرجت أمنية تلتقي ببتول لتصدم بعبدالرحمن أمامها. فصرخت بفرحه جنونية
عبدو... .
تعلقت برقبته تحتضنه بقوة فيما هو أغلق عينيه مستسلماً لعناقها وتنهيدة حزينة شيعت الآخرى التي دخلت شقتهم...
جلست أمنية تقص على... عبدالرحمن تفاصيل ما حدث... ..تبدلت ملامح وجهه المستكينة للغضب... انتفخت اوداجه... واشتعلت عيناه... نهض يدور كالأسد ..يلكم الحائط... نهضت... تؤازره بحنان
اهدأ ياعبدو...
صرخ بغضب أهوج
-وسافر فين الزفت ده وكلمكم ولا لا... ؟
نكست.. أمنيه رأسها قائلة... بأسف امتزج بحزنها
-منعرفش... أنت عارف أمجد ..مبيهموش حد...
اسند ذراعيه على الطاولة منحنياً بجزعه ..ليهمس وهو يغلق عينيه
-عارف
همست أمنية ببوادر بكاء
-صعبان عليا بابا... اتكسر...
زفر عبدالرحمن قائلا بحزن عميق
-ماعاش الي يكسره... .
احتضنه أمنيه فاعتدل ضاماً لها رابتا عليها بحنان ،يواسي جزعها... لكن ليته يواسي الآخرى ..
ينابيع الحيرة تتفجر داخله ..مشطورة روحة لنصفين ..نصف جُرحه ينزف وكبريائه يصرخ بالابتعاد وتركها تجني حصادها... وشطّر... يركل كل ذلك باحثاً عن هوية لا يجدها إلا بجانبها يريد تعويضها ومشاركتها حزنها وتخفيف ألمها ..
********
عاد بعمه للمنزل يشاكسة كعادته قائلا
-ينفع كده تجيبني من لبنان...
ابتسم العم بوهن... أبتسامة مجاملة... جلس عبدالرحمن مقابلة قائلا
-شكلك عايز تلعب طاولة... ؟
أسبل العم جفنية بألم لم يستطع مداراته ،مما جعل عبدالرحمن يهمس بقلق واضع وهو يضم كفيه في مواساة
-في أيه يا عمي... .؟
شرد العم بعينيه بعيداً ،وتنهيدة ألم تتبعها نظرات ميته... ونبره واهنه لاحياة فيها
-خايف... .
زوى عبدالرحمن مابين حاجبيه وهو يتسائل بقلق
-من أيه... .؟
اجابه العم وهو ينظر لعمق عينيه الدافئة
-على بتول... ..أنت عارف هي بالنسبالي أيه... ؟... اتكسرت ياعبدالرحمن ومفيش أصعب من كسرة القلب ..
أخفض عبدالرحمن رأسه مسيطراً على حزنه ،يواري تدفق الألم من نظراته ،ليضيف العم بنبرة رزينة
-مكنتش أقدر أمنعها... واكسر قلبها... كنت فاكر أمجد حيحافظ عليها...
ابتسم عبدالرحمن ابتسامة لم تصل لعينيه ،ليردف بحنان
-شوية وهتنسى... .وهترتاح...
أضاف العم وهو يربت على كف عبدالرحمن بتفهم
-عارف انك بتحبها... .روحك فيها ..
نكس عبدالرحمن رأسه... ارتباك احاطه... ليمسد العم خصلاته بكفه مُضيفاً
-فكرت لما اطاوعها هسعدها... بس تعستها بموافقتي... تجاهلت حبك... .ومحصدناش غير الألم... وبندفع تمن ظلم قلبك الطيب .
فتح عبدالرحمن فمه ليتكلم فأسكته عمه قائلا
-أنت مقصرتش... والكل خزلك... حتى قلبك الي خبى الحب بعناد...
طبع عبدالرحمن قُبلّة على كف عمه قائلا بوخزات ألم
-خلاص الكلام مبقاش ينفع...
توسدت الحسرة نظرات العم ،يعلم أن ماكسر بقلب الأخر لن يستطيع أصلاحه بالكلام...
مع قدوم بتول تحمل طعام والدها ..انسحب عبدالرحمن قائلا
-هستأذن معايا شغل...
بهتت ملامح بتول... وتراجعت خطوة للوراء تجرفها الخيبة... لا تقدر على طلب مشاركته للطعام معهم... هو متبدل معها مُتغير مثلها...
متباعد... صامت... حاد أحياناً...
خرج مُغلقاً الباب خلفه ،تركها متخبطه ..دموعها تعتلي شاطئ صمتها... وضعت الطعام متمالكه احساسها بالحزن وبمشاكسة باهتة كروحها... همست بنبرة مرتجفه
-يلا علشان نأكل ياسي بابا ولا عايزني أزعل منك...
لايدري لما فتح ذراعية ..لكن كليهما بحاجه للأحساس بالدفء
تركت ما بيدها واندفعت لأحضانه تاركه لدموعها العنَّان... ولألمها الانهيار بين ذراعي والدها...
ربت والدها على خصلاتها هامساً
-مالك يا حبيبتي... ؟
أجابته وهي تشهق بعنف
-مخنوقة... حاسة وحيدة ..ضايعة... .مش فاهمة حاجه... أمجد خدعني وعبدالرحمن متغير...
أجابها الأب وهو يبعد وجهها ضاماً له بين كفيه
-أمجد ..طول عمره أناني وأنتِ مفهمتيش ..وعبدالرحمن قلبة مكسور زيك... .
سكنت تمسح دموعها قائلة بشك
-مكسور... .؟.!
-لسه مش فاهمة يا بتول... ..؟
عبست وتعمقت عقدة جبينها ،ليضيف الأب بابتسامة باردة وهو يبعد كفه مشيراً بسبابته على موضع قلبها
-البوصلة حددت المكان غلط... .وضياع الطريق كان سبب في كسر قلوبكم... عبدالرحمن بيحبك يا بتول وقلبك خذله ..
وقعت الجملة على مسامعها كالصاعقة ،اهتزت نظراتها... وتوسعت عيناها ذهولاً... لتكرر بدهشة
-بيحبني... .
أومأ الأب برأسه
-بيحبك... .رجعي يا بتول الشريط وشوفي هو كان بيعمل عشانك ايه... .عارفة المصيبة يابتول أنك أنتِ كمان بتحبي عبدالرحمن بس مش حاسه لأنه طول عمره محاوطك بحبه... قدامك
قدامك فمش شيفاه... .عارفه لما سافر وجيتي قولتيلي أنك حاسه بفراغ وملل... مش مبسوطة وحاجه نقصاكي... هو الي كان ناقصك يا بتول...
كثير ما قيل على عقلها وقلبها... زاد تخبطها ولم تعد تفهم ..ماهو الحب ..؟..وكيف يكون الشعور به... كلام والدها لم يريحها بل تعبها أكثر وأكثر... فتحت شُرفتها طالعت القمر في حضن عرشة... .ومواقفة تصفع ذاكرتها... تمر كشريط سينمائي تستجمع شتات عقلها الغائب ..تحاول التركيز على كلماته... .تنازع... تتحدث مع نفسها علها تستريح...
***********
وهناك كان هو شارداً...
يواسي الجميع ولا أحد يواسية... صحوة أفاقته ..وجرحه الغائر كبل لسانه... أمام عمه... لن يعرض قلبه لمغامره أخرى وحب فاشل... .عيون عمه كانت تنتظر وعداً منه لكنه تجاهل... لن يبقا أسير لعشقها مره أخرى ولا تحت رحمة قلب قاسي دهس روحه واستهان بمشاعره ..
صوت أُمنية انتشله من شروده
-الجميل سرحان في أيه... .؟
التقط من بين أناملها كوب النسكافية قائلا
-مش عارف... مستني اطمن عليكم وبعدين هسافر ..
فغرت أمنيه فمها بذهول ،لكن سرعان ما تبدل ذهولها لعتاب
-ليه يا عبدو خليك معانا... ..بابا محتاجك ..وعمك وبتول...
اشاح بنظراته بعيداً... لتضيف أُمنية بتفهم
-متبقاش قاسي يا عبدو واستغل الفرصه الي منحهالك القدر ..
ابتسم بسخرية ،مردفاً بإستهزاء
-فرصة أيه... .؟ مبقاش ينفع... .ولا بقا بأيدي...... .خلاص من يوم ما اختارت أمجد وأنا شيلتها من حساباتي...الي محسش مره عمره ما هيحس اساعدها لانها بنت عمي أكتر من كده لا ..
زمت أُمنية شفتيها وهي تحاوط نظراته المتهربه قائلة
-اجبرها تحس،ومتبقاش قاسي يا عبدو... بس صدقني ..مش هترتاح...
تنهد عبدالرحمن بتعب ،ليكمل بيأس
-معنديش طاقة... .ثانياً دي مش قسوة ..أنا قدمت كتير... وكنت منتظر تحس بس هي اختارت الي مقدمش الظاهر أحنا دايما بنحب الي يتعبنا... أو بمعنى الممنوع مرغوب... اسرفت فمشاعري واهتمامي بيها والنتيجة... ..زهقت ملت... .
اجابته قائلة بإبتسامة
-يمكن كنت محتاج توضح أكتر... ؟
أدار دفة الحديث قائلا
-طمنيني أخبارك مع حوده ..؟
هزت أمنية رأسها بغير رضا... والأسف يلتمع جلياً في مقلتيها العسليتين....
********
-شكلك هتتغلب... .
صرخ بها عبد الرحمن وهو يلاعب عمه الطاولة... لكن سرعان ما تحول هذا الانتصار الشغوف لقلق شديد حينما داهمت عمة نوبة سعّال قوية أرخت جسدة وخنقت أنفاسه...
نهض عبدالرحمن بفزع يمسد صدر عمه... واتجه للمطبخ جالباً كوب ماء... ارتشف منه عمه القليل لكن لا فائدة... .تأزم الوضع بحضور بتول التي انهمرت دموعها وظلت تحتضن والدها بقوة...
وبعد مرور عدة ساعات... تم فيها نقل العم للمشفى وإدخاله للعناية...
ظلت بتول تنتحب رغم محاولات زوجة عمها في إسكاتها... كاد يصرخ بها عبدالرحمن جنوناً ليس إستياءاً منها ولكن خوفاً عليها...
لا يتحمل دموعها ولا انهيارها... .جاب الطرقات ذهابا وايابا... .يضغط خصلاته بقوة...
خرجت الممرضة منادية بصوت خفيض
-فين عبدالرحمن... ؟
انتبه لها الجميع... ليتقدم عبدالرحمن قائلا
-أنا خيير
اقتربت منه الممرضة هامسةً
-والدك الي جوه... عايزك... بس ياريت متطولش... أنا هسمحلك تدخل بس علشان إلحاحه...
اومأ عبدالرحمن واندفع للداخل ،... حاولت بتول اللحاق به لكن الممرضة اعترضت ....
رمق عبدالرحمن جسد عمه المسجي على الفراش بأسف وحزن اختنقت عبراته... تقدم وجلس هامساً
-عمي...
فتح العم جفونه بتثاقل... ليبتسم نصف ابتسامة يتلقفها الآخر بإبتسامة مشجعة ....
همس العم وهو يجاهد... بعدما ابعد الجهاز عن فمه
-بتول يا عبدالرحمن ..
أجابه عبدالرحمن بلهفة دون أن يفهم معنى السؤال
-كويسة اطمن...
تابع العم بتقطع
-معاك بس هتكون كويسة وهكون مطمن عليها .تجمدت ابتسامة عبدالرحمن لتختفي تدريجياً وينعقد حاجباه بعدم فهم ،فيضيف العم
-خايفة اسيبها لوحدها...
قاطعه عبدالرحمن بحشرجة ألم مخنوقة بغصة
-هتقوم بالسلامة... وهتبقا كويس ..مش هتسيبها ولا تسيبنا .
ابتسم العم وأضاف وهو يلتقط انفاسه الغائبة
-مش هطمن عليها غير معاك ..
ارتسمت الحيرة على ملامح عبدالرحمن... ليضيف العم بثقة وعزم
-اتجوز بتول يا عبدالرحمن .
اتسعت عيناه بذهول وانتفض جسده... ليكرر العم متلاشياً صدمة الآخر
-اتجوز بتول... .
رمش عبدالرحمن يحاول استيعاب تراهات عمه... لينهي العم الصراع بحسم
-دا طلبي يا عبدالرحمن... واتمنى مترفضوش... رجاء من أب ليك... .وفالأخر لك حرية ا لقرار
دخلت الممرضة تلهث قائلة بزعر
-يلا يا استاذ... متأذينيش
نهض عبدالرحمن مبتعداً وقبل خروجه اهداه عمه نظره متوسلة حُفرت في عقله...
خرج صامتاً شارد الذهن... جلس مبتعداً... جلس والده بجانبه رابتاً على كتفة ،لنظر إليه عبدالرحمن بتيه وحيره... .مما جعل والده يبتسم هامساً وقد خمن بذكائه ما حدث
-الخيرة فيما أختاره الله...
*************
اقتربت بتول بحالة صدمة من إقرار والدها... ليهمس بوهن
-بتثقي فيا... ؟
اومأت وهي تكفكف دموعها ،ليربت الأب على وجنتها قائلا
-هو ملاذك ..وأنتِ ملاذه...
همست بتلعثم وهي تتململ
-بس...
أجابها الأب وهو يتطلع للجبل الصامد خلفه بشوش الوجه حاني القلب
-متخفيش... هو موافق...
منحته بتول الموافقة ليشير إلي عبدالرحمن الذي نهض واقترب يُبعد بتول عن والدها...