(إليه ترجعون )
إنها نسائم يوم الجمعة .. تهب رياحينها على منزل الحاج جبران.. هذا النموذج المثالي لمنازلنا المصرية البسيطة.. مذياع يصدح بإذاعة القرآن الكريم إنتظاراً لشعائر الصلاة.. رائحة معتادة في مثل هذا الوقت تنبعث من أعواد البخور التي جلبها الحاج من الاراضي المقدسة أثناء عمرته الأخيرة والتي مازالت زوجته محتفظة بها لتعبأ المنزل برائحتها إحتفالاً بهذا العيد الإسبوعي...
إلتفت الأسرة حول مائدة الإفطار المعدة بإتقان لتكمل مظهراً من مظاهر هذا اليوم المبهج..
نظر الحاج جبران إلى المقعد الفارغ بجواره والحسرة تملأ عينيه.. لم يتحدث لكن ملامحه عكست الضيق الذي يحمله في صدره من اوضاع ولده الوحيد..
"قاسم"... تلك الروح المتمردة بشكل ملفت.. رغبة جامحة في تغيير أي ثوابت نشأ عليها وسط ابويه وأخته الصغرى.. احواله معكوسة بالنسبة لما يحدث داخل منزله.. ليله نهار ونهاره ليل وكأنه يعلن إنفصالاً جزئياً عنهم....
حاول والده ترويض تفكيره الغريب مراراً لكنه فشل ولم تنجح والدته في إخضاعه لأي توسل باكي منها حتى إعتاد الجميع على عدم مشاركته لهم..
تناول الأب فطوره سريعاً ليلحق الصلاة في المسجد وقبل أن يغادر طلب من زوجته الدخول إليه لتوقظه علها تفلح هذه المرة...
إمتثلت الأم الحنون لأوامر زوجها وأتجهت على مضض إلى غرفة قاسم رغم يأسها من إستجابته ..
فتحت باب الغرفة الغارقة في الظلام وجدته يغط في نوم عميق لايشعر بالعالم من حوله.. إقتربت من الفراش بحذر تحسباً لأي رائحة مقززة تصدر من الأشياء المحيطة به وبالفعل لم يخب ظنها فزجاجة الخمر ولفائف التبغ المحشوة بالمخدر اللعين في أماكنهم المعتادة على الطاولة بجانب السرير ..
فرت منها دمعة ساخنة رثاء حال هذا الولد العاصي تتحسر في قلبها على ماوصل إليه من سوء أخلاق وعدم مبالاة.. أصبح يتصرف بوقاحة وحرية تعدت كل الخطوط الحمراء..
لم تستطع منع نفسها من إيقاظه بغضب فشلت في السيطرة عليه.. فتح قاسم عينيه الناعستين قائلا ًبتذمر
(فيه إيه عالصبح؟.. بتصحيني بهمجية كدة ليه وكأن اللي نايم حيوان مش بني آدم)اضاءت والدته المصباح لتظهر معالم الغرفة الفوضوية وانطلقت الكلمات منها كالسهام عله يستفيق قبل فوات الآوان (بص حواليك وانت تعرف إن اللي نايم حيوان.. ده حتى الحيوانات تقرف تنام في القذارة دي)
مسح على رأسه بنفاذ صبر واردف قائلا بملامح ممتعضة (والله دي اوضتي وأنا حر فيها...وبعدين إزاي تدخلي عليا من غير إستئذان؟)
رمقته والدته بغيظ من صفاقته وعدم تهذيبه ثم امسكت زجاجة الخمر بإشمئزاز قائلة (خمرة وحشيش يا قاسم؟.. فاضلك إيه تاني غلط ماعملتوش في البيت؟)
زفر بحنق شديد ولم يرد.. تابعت والدته حديثها الغاضب (إنت ولا عامل حساب لابوك ولا ليا.. ده إنت مش عامل أعتبار إن اللي بتعمله ده حرام وربنا هيحاسبك عليه.. يابني انت لو بعد الشر جرالك حاجة بسبب القرف اللي بتشربه هاتكون آخرتك سودة)
أنت تقرأ
قاسم (قصة قصيرة مكتملة)
Storie breviوقف طيف قاسم يشاهد مايحدث حوله في صمت.. إتشحت والدته بالسواد... رأى انحناءة ظهر ابيه.. دموع شقيقته التي لم تتوقف.. المنزل إمتلأ فجأة بالناس واصوات الذكر الحكيم تصدح في جميع الأركان ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي...