جزء بلا عنوان 1

15 0 0
                                    

( 1 )

فريد

جولة جديدة في الصراع بين القدر والصدفة

شتاء2019

يقولون أن الصحافة هي مهنة البحث عن المتاعب. ولكني في الواقع أراها غير ذلك. إنها المتاعب بعينها. هذه حقيقة لا يدركها إلا شخص يجري وراء الخبر وهو يشعر بأن الخبر يجري أمامه وبنفس السرعة تقريباً. والغريب أن البعض يظن بأن الواجهة الاجتماعية والمكانة المرموقة التي قد يحصل عليها الصحفي كافية لتعوضه عن مشاق المهنة وآلامها وهو ظن مغلوط تماماً خاصة إذا كنت مثلي مجرد صحفي مغمور بقسم الحوادث في جريدة لا يكاد يقبل على شراءها إلا أفراد أسرتك وربما القليل جداً من أصدقاءك المقربين لا لشيء إلا للتباهي بأنهم يمتون بصلة لصاحب هذا الاسم ذو الحروف الباهتة الصغيرة الذي يحتل ركن بعيد في صفحة ما من جريدة (الكلمة).

كانت ( نيفين ) واحدة من بين هؤلاء القليلين ذوي النزعة النرجسية الذين أعرفهم. لعل أروع ما في هذه الفتاة الخمرية ذات الوجه المستدير هو خيالها الخصب , ولو أن الخيال وحده يكفي لأهلها ذلك لأن تكون أديبة ذات شأن. كانت شديدة الإيمان بي , تثق في قدراتي وتشجعني على المضي قدماً وتقسم لصديقاتها أن خطيبها – هذا الذي يتحدث إليكم الآن – سيصبح ذات يوم قريب صحفيا لامعاً تتخطى شهرته حدود البلاد.

" إنك أسلوبك الرائع يذكرني بأدباء العصر الكلاسيكي. "

"ولكني افتقد لخيالك الواسع."

" حسنٌ. دعني ألقي أمامك بنتوف خيالي المبعثرة وأتركها لك لتنظمها بهذا الأسلوب البديع في قالب روائي. يالها من فكرة. سنكون ثنائياً مبهراً وسنحظى بشهرة واسعة. هل تعتقد أننا سنكون في شهرة عائلة برونتي ؟ "

" وربما على نفس الدرجة من بؤسها. "

" لست أمزح يا ( فريد ). إنك تحتاج إلى القليل من الوقت والثقة بالنفس لتصبح من رواد الصحافة والأدب في مصر. "

أحياناً كانت تأخذني نوبة من الضحك لا يمكنني تجنبها , وأحياناً أخرى كانت كلماتها هذه وإيمانها العميق بقدراتي المحدودة يمثل مناخاً مناسباً لعدوى الغرور. في الواقع كان خيالها الخصب الذي أفتقد لمثله هو ما يتملكني إلى حد الأسر. كان لدى كل منا ما يفتقده الآخر وكأننا وجهي عملة متكاملين ومتلاصقين على المستوى الروحي.

كنا قد اتفقنا على أن نلتقي في السابعة مساءاً على شاطئ البحر في ميامي. هناك بالقرب من منطقة بئر مسعود أول شاهد على ميلاد حبنا في الشتاء الماضي , أي منذ عام تقريباً. ومع لهفتي وتحرقي شوقاً لأن أراها , إلا أنني على غير عادتي غرقت في خضم العمل على نحو قذفني خارج حدود الزمان والمكان. هذا لا يعني أنني على قدر من الأهمية والمسئولية في العمل , فكما أخبرتكم سابقاً لست إلا صحفي مغمور في صحيفة أشد غمرة , ولكنها تلك الحادثة الغريبة التي كنت أعكف على تحريرها هي من ابتلعتني حتى تلاشيت تماما في ضبابها الكثيف الغامض.

الدانوب الأزرقWhere stories live. Discover now