ص 32الباب الأول في المقدمات 
إنقسام حقيقة الإنسان وحالاته بالاعتبار - تجرد النفس وبقاؤها - التذاذ النفس وتألمها - فضائل الأخلاق ورذائلها - الأخلاق الذميمة تحجب عن المعارف - حصول الملكات بتضاعف الأعمال - العمل نفس الجزاء - القول بتجسد الأعمال والملكات - المضادة بين الدنيا والآخرة - للجبلة والمزاج دخل في جودة الملكات ورداءتها - حقيقة الخلق وماهية الملائكة - الأقوال في تبدل الأخلاق والملكات - شرف علم الأخلاق - تعريف النفس وأساميها باختلاف الاعتبارات - في الإشارة إلى اعتبار مدافعة القوى الأربع - إنقهار النفس بتسخير القوة العالية - إختلاف الصفات يوجب اختلاف النفوس - إئتلاف حقيقة الإنسان من الجهات المتقابلة - حقيقة الخير والسعادة - والجمع بين الأقوال المختلفة فيها - شرائط حصول السعادة - غاية ما يمكن الوصول إليه من السعادة - تقسيم اللذات والآلام - اللذة في الحقيقة هي العقلية دون الحسية - إيقاظ فيه موعظة ونصيحة - التنبيه على أن الفائت لا يتدارك .
فصل: انقسام حقيقة الإنسان وحالاته بالاعتبار
إعلم أن الإنسان منقسم إلى سر وعلن وروح وبدن ولكل منهما منافيات وملائمات ، وآلام ولذات ، ومهلكات ومنجيات . ومنافيات البدن وآلامه هي الأمراض الجسمانية وملائماته هي الصحة واللذات الجسمانية . والمتكفل لبيان تفاصيل هذه الأمراض ومعالجاتها هو علم الطب . ومنافيات الروح وآلامه هي رذائل الأخلاق التي تهلكه وتشقيه ، وصحته رجوعه إلى فضائلها التي تسعده وتنجيه وتوصله إلى مجاورة أهل الله ومقربيه . والمتكفل لبيان هذه الرذائل ومعالجاتها هو (علم الأخلاق) . ثم إن البدن مادي فان ، والروح مجرد باق ، فإن اتصف بشرائف الصنات كان في البهجة والسعادة أبدا ، وإن اتصف برذائلها كان في العذاب والشقاوة مخلدا ، ولا بد لنا من الإشارة إلى تجرده وبقائه بعد خراب البدن ترغيبا للطالبين على السعي في تزكيته وحفظه عن الشقاوة الأبدية .
ص 33
فصل: في تجرد النفس وبقائها 
لا ريب في تجرد النفس وبقائها بعد مفارقتها عن البدن . أما الأول (والمراد به عدم كونها جسما وجسمانية) فيدل عليه وجوه : (منها) إن كل جسم لا يقبل صورا وأشكالا كثيرة لزوال كل صورة أو شكل فيه بطريان مثله ، والنفس تقبل الصور المتعددة المختلفة من المحسوسات والمعقولات من دون أن نزول الأولى بورود الأخرى ، بل كلما قبلت صورة إزدادت قوتها على قبول الأخرى ، ولذلك تزيد القوة على إدراك الأشياء بالرياضيات الفكرية وكثرة النظر ، فثبت عدم كونها جسما . و(منها) إن حصول الأبعاد الثلاثة للجسم لا يتصور إلا بأن يصير طويلا عريضا عميقا وحصول الألوان والطعوم والروائح له لا يتصور إلا بأن يصير ذا لون وطعم ورائحة وهي تحصل للنفس وقوتها الوهمية بالإدراك من غير أن تصير كذلك ، وأيضا حصول بعضها للجسم يمنع من حصول مقابله له ، ولا يمنع ذلك في النفس بل تقبلها كلها في آن واحد على السواء . و(منها) أن النفس تلتذ بما لا يلائم الجسم من الأمور الإلهية والمعارف الحقيقية ، ولا تميل إلى اللذات الجسمية والخيالية والوهمية ، بل تحن أبدا إلى الابتهاجات العقلية الصرفة التي ليس في الجسم وقواه فيها نصيب ، وهذا أوضح دليل على أنها غيرهما ، إذ لا ريب في أن ما يحصل لبعض النفوس الصافية عن شوائب الطبيعة من البهجة والسرور بإدراك العلوم الحقة الكلية والذوات المجردة النورية القدسية ، وبالمناجاة والعبادات والمواظبة على الأذكار في الخلوات مع صفاء النيات لا مدخلية للجسم فيها وقواه الخيالية والوهمية وغيرهما ، إذ النفس قد تغفل في تلك الحالة عنها بالكلية ، وربما استغرقت بحيث لا تشعر بالبدن ولا تدري أن لها بدنا فكأنها منخلعة عنه ، فهذا يدل على أنها من عالم آخر غير عالم الجسم وقواه ، إذ التذاذهما منحصر بالملائمات الجزئية التي تدركها الحواس الظاهرة والباطنة . و(منها) أن النفس تدرك الصور الكلية المجردة فتكون محلا لها ، ولا ريب في أن المادي يكون محلا للمجرد إذ كل مادي ذو وضع قابل