الباب الثانيفي بيان أقسام الأخلاقي وتفصيل القول فيها 
وفيه فصول أجناس الفضائل الأربعة والأقوال في حقيقة العدالة - حقيقة العدالة انقياد العقل العملي للعقل النظري ولوازم الأقوال في العدالة - العقل النظري هو المدرك للفضائل والرذائل - دفع أشكال في تقسيم الحكمة - تحقيق الوسط والأطراف - أجناس الرذائل وأنواعها - الفرق بين الفضيلة الرذيلة - العدالة أشرف الفضائل - إصلاح النفس قبل إصلاح الغير وأشرف وجوه العدالة عدالة السلطان - لا حاجة إلى العدالة مع رابطة المحبة - التكميل الصناعي لاكتساب الفضائل على طبق ترتيب الكمال الطبيعي .
ص 69
فصل أجناس الفضائل الأربع والأقوال في حقيقة العدالة
قد تبين في العلم الطبيعي أن للنفس الناطقة قوتين : أولاهما : قوة الإدراك و ثانيتهما : قوة التحريك ، ولكل منهما شعبتان : (الشعبة الأولى) للأولى العقل النظري ، وهو مبدأ التأثر عن المبادئ العالية بقبول الصور العلمية ، و(الشعبة الثانية) لها العقل العملي ، وهو مبدأ تحريك البدن في الأعمال الجزئية بالروية (1) . وهذه الشعبة من حيث تعلقها بقوتي الشهوة والغضب مبدأ لحدوث (2) بعض الكيفيات الموجبة لفعل أو انفعال ، كالخجل والضحك والبكاء وغير ذلك ، ومن حيث استعمالها الوهم والمتخيلة مبدأ لاستنباط الآراء والصنائع الجزئية . ومن حيث نسبتها بالعقل وحصول الازدواج بينهما سبب لحصول الآراء الكلية المتعلقة بالأعمال كحسن الصدق ، وقبح الكذب ، ونظائرهما . (الشعبة الأولى) للثانية قوة الغضب وهي مبدأ دفع غير الملائم على وجه الغلبة ، و(لشعبة الثانية) لها قوة الشهوة وهي مبدأ جلب الملائم . ثم إذا كانت القوة الأولى غالبة على سائر القوى ولم تنفعل عنها ، بل كانت هي مقهورة عنها مطيعة لها فيما تأمرها به وتنهاها عنه ، كان تصرف كل منها على وجه الاعتدال ، وانتظمت أمور النشأة الإنسانية ، وحصل تسالم القوى الأربع وتمازجها ، فتهذب كل واحد منها ، ويحصل له ما يخصه من الفضيلة ، فيحصل من تهذيب العاقلة العلم وتنبعه الحكمة ، ومن تهذيب العاملة العدالة ، ومن تهذيب الغضبية الحلم وتنبعه الشجاعة ، ومن تهذيب الشهوية العفة وتتبعه السخاوة . وعلى هذا تكون العدالة كمالا للقوة العملية . بطريق آخر قيل : إن النفس لما كانت ذات قوى أربع العاقلة والعاملة والشهوية
(هامش)
(1) إذا كان العقل العملي مبدأ لتحريك البدن فهو قوة تحريك لا قوة إدراك وفي الحقيقة أن غرضهم من العقل العملي هو إدراك ما ينبغي أن يعمل . (2) وفي النسخة المخطوطة عندنا الحصول . ج : 1 (*)
ص 70
والغضبية ، فإن كانت حركاتها على وجه الاعتدال ، وكانت الثلاث الأخيرة مطيعة للأولى ، واقتصرت من الأفعال على ما تعين لها ، حصلت أولا فضائل ثلاث هي الحكمة والعفة والشجاعة ، ثم يحصل من حصولها المترتب على تسالم القوى الأربع ، وانقهار الثلاث تحت الأولى حالة متشابهة هي كمال القوى الأربع وتمامها ، وهي العدالة . وعلى هذا لا تكون العدالة كمالا للقوة العملية فقط ، بل تكون كمالا للقوى بأسرها . وعلى الطريقين تكون أجناس الفضائل أربعا : الحكمة وهي معرفة حقائق الموجودات على ما هي عليه والموجودات إن لم يكن وجودها بقدرتنا واختيارنا فالعلم المتعلق بها هو الحكمة العملية . والعفة هي انقياد القوة الشهوية للعاقلة فيما تأمرها به وتنهاها عنه حتى تكتسب الحرية ، وتتخلص عن أسر عبودية الهوى . والشجاعة وهي إطاعة القوة الغضبية للعاقلة في الإقدام على الأمور الهائلة ، وعدم اضطرابها بالخوض فيما يقتضيه رأيها حتى يكون فعلها ممدوحا ، وصبرها محمودا . وتفسير هذه الفضائل الثلاث لا يتفاوت بالنظر إلى الطريقين . وأما العدالة فتفسيرها على الطريق الأول هو انقياد العقل العملي للقوة العاقلة وتبعيته لها في جميع تصرفاته ، أو ضبطه الغضب والشهوة تحت إشارة العقل والشرع الذي يحكم العقل أيضا بوجوب إطاعته ، أو سياسة قوتي الغضب والشهوة ، وحملها على مقتضى الحكمة ، وضبطهما في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاه . وإلى هذا يرجع تعريف الغزالي إنها حالة للنفس وقوة بها يسوس الغضب والشهوة ، ويحملهما على مقتضى الحكمة ، ويضبطهما في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها إذ المراد من الحالة والقوة هنا قوة الاستعلاء التي للعقل العملي لا نفس القوة العملية . وتفسيرها على الطريق الثاني هو إئتلاف جميع القوى ، واتفاقها على امتثالها للعاقلة ، بحيث يرتفع التخالف والتجاذب ، وتحصل لكل منها فضيلته المختصة به . ولا ريب في أن اتفاق جميع القوى وائتلافها هو كمال لجميعها لا للقوة العملية فقط .