اليوم الأخير

166 10 19
                                    

السَّاعة الثَّالثة صباحًا، انتشلني من حرارة ذكرياتي دويُّ انفجار، لم أستطع النَّوم هذه الليلة أيضًا. تؤرقني فكرة مغادرتي لمدينتي، الوطن الذي آواني طيلة عمري أصبح اليوم بقايا وطن، أطلال غادرتها الحياة، ولم تبقَ حولها سوى روائح أهلها -الممتزجة برائحة الدَّم والدُّخَّان- وبعض الأحجار الَّتي تشهد بأن كان هنالك حياة هنا، وقبل زمن ليس ببعيد.

اتَّجهت نحو غرفة أمِّي لأوقظها، اليوم سنغادر بيتنا لننجو بأرواحنا، بيتنا الذي آوانا وكان شاهدًا على أفراحنا وأتراحنا سيُهجَر لأنَّنا لسنا بوفائه، ولا بثباته. طرقت الباب وكان ذلك كفيلًا بأن تنهض أمِّي عن فراشها، هي الأخرى لم يزرها النَّوم، لا بدَّ وأنَّها أمضت الليلة تتفقد آخر ما تبقَّى لها من أبي: الذِّكريات، البيت، ونحن.

ربَّتت أمِّي على كتفي قبل أن تضيء الغرفة الَّتي كانت تضمُّ إخوتي، وعائلة عمَّي الَّتي جمعتنا بهم الحرب تحت سقف واحد، وقريبًا، سيَّارتين اثنتين.

عدت بدوري لغرفتي لأوقظ عمِّي الَّذي كان ينام على أرضيَّتها بتعب؛ فقد اتَّخذ الليلة الماضية قرارًا صعبًا، إن كان ترك الأرض أمراً تُهَدُّ له الجبال، أفلا يحقُّ لجبل كعمِّي أن يُهَد؟

جمعنا كبارًا وصغارًا أهمَّ الحاجيات، وضبناها في السيَّارتين الَّلتين ستحملاننا وانطلقنا مسارعِين نحو البوَّابة الغربيَّة للمدينة، كانت الخطَّة أن نخرج قبل طلوع الشَّمس؛ حيث أنَّ الاشتباكات تبدأ ببدء النَّهار، وأن نتَّجه غربًا؛ حيث ستأخذنا الطَّريق لبيت عمَّتي في إحدى المدن الواقعة غرب المدينة، وكذلك سرنا.

في الطَّريق، كنت أرقب مدينتي وقد اصطبغت باللون الرمَّادي، المباني فقدت ألوانها وباتت ركامًا رماديًّا، والسَّماء حُجِبت بسحب رماديَّة اللون، لون يعصر قلبي. هاجمتني ذكريات الطُّفولة عندما مررت بشارع المدرسة، تذكَّرت السِّباقات، والألعاب، والمشاجرات التي كنَّا نخوضها، أيُعقل هذا؟ أأترك مدينتي حيث تعلمت كل ما أعلم، وأحببت كل ما أحبُّ؟ إنِّي والله ليعزُّ عليَّ أن أهجرها وقد بُليَت، بعد أن احتضنتني أيَّام رخائها.

السَّاعة السَّادسة، بدأت الشمس تضيء من خلف السُّحب. اقتربنا أخيرًا من البوَّابة، حيث تقف عند مدخلها سيَّارتان عسكريَّتان ودبَّابة، أوقفني شابٌّ يرتدي ملابس عسكريَّة، سألني عن وجهتي وطلب بطاقتي الشخصيِّة، ألقى نظرةً عليها، ثم نظر نحوي ببرود وطلب منِّي أن أترجَّل من السيَّارة. نزلت فأمرني بأن أتبعه، همَّ بمخاطبتي لولا أن قاطعته سيَّارة عسكريَّة تتجه نحو البوَّابة، رجال يصرخون، عمِّي يضغط على مزمار السيَّارة، أمِّي تنادي باسمي، أصوات تكبير تتخلَّلها أصوات عيار ناريٍّ، كلُّها أشياء جعلتني أتسمُّر مكاني لبرهة قبل أن تتحفَّز خلاياي العصبيَّة، بدأت أركض نحو السيَّارة، ثمَّ توقَّفْت.

شيءٌ ما وخزني في صدري، هي رصاصة، خارت رجلاي، وبدأت أنزف، أتى عمِّي راكضًا نحوي، وأمِّي تنادي في السيَّارة: "وليدي!".
يبدو أنَّني أموت، حمدًا لله، لن أترك الوطن!

مجرد ضحيَّة أخرىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن