الثالثة صباحاً، يتخبط بين أزقة الحي، لا يدري أهو الذي يعبرها؟ أم هي التي تعبره؟ يمضي مُطأطِئ الرأس، مُلتمع المقلتين، بلا وِجهَة، فقط يمضي ويمضي ويمضي.
قبل ثلاث ساعات ونيف، عند الحادية عشرة أو الثانية عشرة، أو ما بينهما، سمع صوت صرخة زلزت جدران بطنه، تبعتها أصوات نحيب وبكاء ما فتئت تعتلي وتعتلي وتعتلي.
تجمدت أوصاله، تيبست أطرافه، سكُن كل شيء فيه -حتى أنفاسه- وحده الدم في عروقه كان يجري، يجري حاراً وغزيراً نحو رأسه، ربما ليس الدم وحده، ربما كان الدم والدموع والذكريات البائسة، تجري وتجري وتجري.قبل ثلاثة أيام، كان يتحدث عبر الهاتف، يسأل صديقه الوحيد عن حاله، يسأله إن كان سيراه قريباً، إن كان اشتاق لِحيِّهم وأزقته التي تمتد بلا انتهاء، إلى الما لا نهاية -كهذه الليلة- كانت نبرة صوته خافتة مرتعشة، هكذا هي منذ امتهن هذه المهنة الملعونة، هكذا هي منذ كسر قلب والدته، وقلبه، خافتة ومرتعشة على نقيض ماضيها، عندما كانت عالية ومليئة بالثبات وبالثقة وبالكثير من البهجة، فكر: إن حبال صديقه الصوتية تحتضر، ولكم سيشتاق للألم الذي يغزو طبلة أذنه كلما تواجد بقربه. لم يدر بأن الحبال لم تكن الوحيدة آن ذاك، لم يدر بأنها ستكون أقل ما سيشتاق إليه.
قبل ثلاثة أشهر، في مايو تحديداً، كانا يجلسان أمام منزله، على ذلك الرصيف الذي لا طال ما شهد على أحاديثهما، وأكثر أسرارهما حميمية، وفي تلك الليلة الباردة من مايو، شهد الرصيف على أكثر أحاديثهما.. أو دعوني أقل: أكثر شجاراتهما إيلاماً، أخبره صديقه في تلك الليلة بأنه سيتوجه للجبهة في صباح اليوم التالي مع الكتيبة الجديدة، تمتم: "تلك المليئة بالغلمان الذين لا يفقهون في الحرب شيئاً؟"
صرخ الآخر: "بل نفقه، لقد كنا نتدرب من أجل هذا منذ مدة! لا تحاول ثنيي عن هذا فأنا مقتنع تماماً بما أفعل!" أخبره بأنه محتاج للمال، بأن شهادته لم تجلب له نفعاً، بأنه بئس من قيادة تلك الشاحنة جيئة وذهاباً لساعات، ثم وفي نهاية الليلة يأخذ أجراً زهيداّ لا يكفي إلا لتسديد فاتورة الـ"إنترنت"، أخبره بأنه يريد أن يعيش، يريد أن يبني بيتاً، أن يتزوج، أن ينجب أطفالاً يكون قادراً على إطعامهم، وعلى رؤيتهم يكبرون أمامه، لا يريد أن يكون كأبيه، لا يريد أن يموت وهو يقود تلك الشاحنات التي يمتلكها ويأخذ جُلَّ ربحها غيره، أن يموت دون أن يرى أبناءه يحولون رجالاً دون أب يحبسهم في المنزل حين يُصرِّحون بأنهم يريدون الانخراط في الجبهة.كانت ليلة باردة على غرار ليالي أغسطس، أم أنها لم تكن؟ لعل هول الموقف هو الذي جعله يرتعد، منذ متى وأغسطس يحمل المفاجآت؟ ألم يكن ذاك الشهر الصيفي المليء بكرة القدم والكثير من التعرق؟ الكرة واللعب والمثلجات والأصدقاء الذين لم يبق منهم أحد، كل منهم أخذته الحياة بعيداً، أما الوحيد الذي بقي أخذته الحرب، ألا حاربها الله!
أمضى ليلته يقطع الشوارع والذكريات، غائباً عن واقعه الحالي -غارقاً في ما وقع- حتى أيقظه صوت المؤذن ينادي أن حيَّ على الصلاة، فتوجه ملبياً النداء.