9

199 27 2
                                    


.

كانت آسية جالسة و هي تفكر في بيداء بعد مرور سنتين من زواجها؛ فهي تسمع عنها الكثير مما يؤلم و مما تصدق بعضه و لا تكاد تصدق البعض الآخر. فقد سمعت أنها، و بعد صراع طويل و مرير، بدأت تتحلل من حجابها و تخرج مع زوجها للنوادي و الحفلات. و سمعت أنها رُزِقت بولد أسمته فريد؛ و سمعت أيضاً أنها دائمة الوجوم لا تكاد الابتسامة تبدو على شفتيها. سمعت هذا و سمعت غير هذا، و هي في كل ذلك مصدقة تارة و مكذبة أخرى. و في صبيحة ذلك اليوم، كانت تفكر بها و تتمنى لو عرفت عنها شيئاً يوضح لها حقيقة ما تسمع؛ فرن في أذنها جرس الباب، فهرعت إليه بشكل لا اختياري. و إذا بها تجد أمامها بيداء! نعم بيداء بلحمها و دمها، لولا شحوب هائل كان يلون وجهها بشكل واضح. فرحبت بها و قادتها إلى الغرفة، و هي تترقب أنباءً سيئة من وراء هذه الزيارة الغير مترقبة. و جلست بيداء و هي ساكنة، و كأنها لاتعرف كيف تبدأ الحديث. فقالت آسية:
لكم كان يهمني أن أراك يا بيداء. فإن أخبارك كانت تصلني باهتة، و كنتُ احب أن أسمعها منك مباشرة.
و هنا اندفعت بيداء تبكي في مرارة، و هي تقول:

- و هل لدي أخبار سوى العار و الدمار يا آسية؟ أو هل أنا سوى ضحية من ضحايا الطيش و الغرور؟ و ماذ يهمك من أخباري بعد أن تهاويت إلى هذا الدرك؟ أنا لم أعد جديرة بصداقتك، يا آسية. إنني إنسانة بائسة يائسة، فليرحمني الله...
فتأثرت آسية لحال بيداء، و قالت في حنان:
و لكنك أُختي على كل حال من الأحوال، و علي أن أنصرك ظالمة أو مظلومة. حدثيني بما لديك، و كوني معي صريحة كما كنت من قبل.
قالت:
نعم سوف أحدثك بكل شيء. أنتِ تعلمين أنني قد خالفت مشورتك و اندفعت وراء وهم كاذب. و حاولت أن أقاوم و أكابر، فجاهدت أن أجرّه إليّ، ففشلت. بذلتُ المستحيل لكي أُرضيه بوضعي ففشلت. بدأ يسحق روحياتي بقساوة. و أخذ يعمل على إذلالي بضراوة... فتارة يخدعني برقته، و تارة يخيفني في شدته. فكّرت أن أنفصل عنه فعجزت، لأنه كان لدي جنين منه يشدني إلى بيته. و أخيراً أتعبتني المقاومة وأرهقني الصرع، فاستسلمت له متخاذلة، و انقدتُ إلى ما يطلب مجبورة مقهورة؛ فتمادى في مطالبه الجاحفة و استغل ضعفي لكي يجرني إلى الحضيض، نعم إلى الحضيض. و سرتُ وراءه كما يسير المحكوم إلى ساحة الإعدام. و مع ذلك، و مع كل هذا، فها أنا ذي كما ترين!!.
و لم يسع آسية أن تدخل معها في لوم أو تأنيب و هي على هذا الوضع اليائس المنهار، فتماسكت و هي تقول:
و مع هذا فماذا بك الآن؟
قالت :
لقد طلقني قبل أسبوع بعد أن مات ابني، و اتهمني أنني أنا التي تسببت بموته!
قالت :
أنتِ تسببت بموته؟ و كيف؟
قالت :
لأنني صمت شهر رمضان!.
قالت آسية :
و هل أن صومك أدى إلى موت ابنك جوعاً، يا بيداء؟
قالت :
كلا، فهو لم يكن يقتصر على حليبي، يا آسية. لقد أصيب بعارض وقد أدى ذلك إلى موته...

و أشفقت آسية على هذه الانسانة المسكينة المطعونة في كرامتها و دينها، المصابة بوليدها و صغيرها. أشفقت عليها حتى انهمرت من عينيها الدموع.. و أردفت بيداء قائلة:
و هكذا ترين أنني فقدت كل شيء و خسرت كل أحد...
فنهضت آسية إليها لتمسح على رأسها و تقبلها في عطف قائلة:
كلا، إنكِ لم تخسري كل شيء؛ فإن الدين ما زال يدعوكِ لكي تعودي إليه عن طريق التوبة؛ و أنا مازلت أفتح لكِ قلبي ليحتضنك من جديد؛ و المستقبل أمامك واسع طويل. و لعل هذه التجربة سوف تبني لك مستقبلاً صالحاً قائماً على أسس ثابتة مكينة، فلا تدعي اليأس يأخذ طريقه نحوكِ، يا بيداء. فـ "إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (يوسف 87)".

* * *

-تمت بحمد الله-

تراث ~ بنت الهدىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن