أنا..

201 14 22
                                    

الشتاء قد اقترب كثيراً. أستطيع الشعور بالبرد في أطرافي السفلية. استيقظتُ ببطئ وأنا أراقب بزوغ الشمس ووصول أشعتها إلى غرفتي.

أعيش في شقة.. لا يمكن قول شقة لأنها تتكون من غرفة واحدة، تشمل سريراً أحادياً ومطبخ صغير، والأجمل في الأمر هو وجود نافذة. وذلك أهم شيء بالنسبة لي. فأنا أعشق حقاً مراقبة أي شيء من النافذة. كبرتُ على هذه العادة.

نهضتُ كالعادة وقمتُ بروتيني اليومي، وتناولتُ الفطور. الساعة تشير إلى الثامنة صباحًا. خرجتُ من الشقة.. أو من الغرفة، واتجهتُ صوب عملي.

أعمل كنادل في مقهى. ما أفعله هو تجهيز الطلبات. فأنا أبكم لا أستطيع حتى التنهد.. وذلك يرجع إلى صدمة حدثتْ لي حين كنتُ أدرس في المتوسطة.. فلقد رأيتُ ذلك الحادث الدموي حين كنتُ عائداً من المدرسة، وجرّاء ذلك فقدتُ صوتي. قال الخبراء أن صوتي سيرجع إن تابعْتُ طبيباً نفسيا، لكن ولفقر والداي لم نستطع حتى توفير مبلغ حصة واحدة. لذلك لم أتمم حتى دراستي كما يفعل أي شخص في هذا العالم.

لم أحصّل أي شهادة ولم أعمل أي عمل مرموق.. ولم أدافع عن نفسي كما ينبغي. كل ما أفعله هو الكتابة على دفتري الخاص لأشرح للناس عن شيء ما. ما يفعله الناس عادة هو ترديد جمل كـ ' مسكين لا يستطيع الكلام' أو 'لابد أنكَ تعيش في رفاهية كونكَ مسكين أبكم'. في بداية الأمر كنتُ أستاء منهم وأحاول شتمهم لأتذكر أني أبكم ولا أستطيع فعل ذلك، لكن بمرور الوقت أصبحتُ لا أهتم .

والداي واللذان حاولا أن يرجعا صوتي، قد تملكهما اليأس وقد بدآ حقاً في التخلي عني وتركي أواجه هذا العالم لوحدي. لكن ما فعلته كان الهرب من المنزل، فأنا لم أرد حقاً أن أرى تلك النظرة المنكسرة على وجهيهما، حاولتُ جاهداً أن أتراجع عن قراري.. لكن ما الذي سيغيره قراري، فرح والداي بي مثلاً.. لا، أراهن أنّ والداي الآن يعيشان حياة جميلة، لا أولاد، لا مصاريف، لا تعب تربية.. هربتُ من المنزل وتشردتُ لأيام ورُفِضتُ في العديد من الوظائف ثم وجدتُ شقة مناسبة لي بسعر زهيد في إحدى أحياء سيول المظلمة كما يقولون عنها، لم أعرف المنطقة التي أعيش فيها، ولم أكن سأتعرف عليها لولا لافتة النيون التي تبرز من قمة المنحدر. لافتة نيون لفندق العشاق الذي يمتلك اسماً غريباً.. 'موغ' وتعني الموت بالفرنسية. ستقولون كيف لي أن أعرف المعنى، لكني كنتُ دودة كتب فضة. كنتُ ألتهم الكتب والأوراق وكل شيء، فقط لأشعر بالحياة. حتى الآن لازلتُ أذهب إلى المكتبة التي تبعد عني حوالي عشر أحياء سكنية، فقط من أجل اقتراض الكتب وإمضاء الليل في القراءة. فلا يعني أني أبكم ولم أكمل دراستي، أنني لا أحب المطالعة، لا فأنا شخص يمكنكَ أن تطلق عليه صفة 'المثقف'.

على كل، لقد وصلتُ إلى المقهى الذي أعمل به. حملتُ الكمامة السوداء ووضعتُها على وجهي، فمدير المقهى قال لي أن أضعها طوال فترة عملي في المقهى، لكي يتنبّه العاملون والزبائن أني أبكم.

الشتاء قد اقترب..  |مكتملة|حيث تعيش القصص. اكتشف الآن