دريسدن، ألمانيا، في الرابع عشرة من فبراير 1965.لقد نسيت هذه الصفحة من مذكراتي دون قصد على سرير الفندق الذي قضيت فيه الليلة الماضية، ودون قصد أيضا عثرت عليها الصحافة.
الكاتبة المرموقة "إلبيس كلارك" تفصح عن ذاكرة حميمة خاضتها أثناء الحرب العالمية الثانية أثناء الهجمة البريطانية الأمريكية على مدينة دريسدن الألمانية. أتوقع أنه العنوان الذي سيغزو الصحف بعد ساعات.
الشوارع مزينة اليوم احتفالا بيوم القديس فلانتين والعشاق الصغار يجلسون على المقاعد الخشبية يتبادلون العبارات الرقيقة والنظرات الحارة دون ملل، لكنني أبحث بين حدائق دريسدن عن أجمل الزهور لكي أصنع منها باقة مميزة أهديها لك، اليوم يمضي عشرون عاما بالضبط على لقاءنا، مازلت أذكر تلك الليلة بالتفصيل.
كانت رائحة الهواء شبية برائحة الكبريت، تمتد محرقة كل خلية من خلايا الرئتين، وكنا فقدنا إحساسنا بالطقس في ذلك الليل وتمكن الخوف منا تمكنا عظيما. لم أستطع أن أحدد الشارع الذي ركضت فيه بعد أن عادت طائرات الحلفاء لإلقاء القنابل بعشوائية حول المدينة، كل ما فكرت فيه النجاة مهما كلفني الثمن. ركضت فقط دون وجهة تذكر كنملة صغيرة جدا تحت ظل قدم بشرية كل الاتجاهات تأخذها إلى الهلاك.
انفجار قوي دوى على بعد قريب، صمّ الصوت أذاننا جميعا وعادت موجة الصياح لتطغى على الأحياء. انتفض قلبي كبركان والتفتت لأرى اللهب المتطاير حتى السماء، رأيت الطائرات العسكرية تحوم على مقربة منا وتجرعت مذاق الموت المر مع الهواء.
فجأة وقعتَ أمامي من بين الحشد الذي سبقني في موجة الركض العشوائي، رأيت شابا في مقتبل العمر يقف بالقرب منك وبعفوية سمعته يصرخ باسمك يأمرك بأن تنهض لكنك تكورت حول نفسك على الأرض وبدأت بالارتجاف الشديد. تركك حيث أنت ثم رحل هاربا بجلده، نداء الحياة صوت كافر لا يعرف دينا ولا صاحبا.
- هل أنت بخير؟
قلت بعد أن جثوت على ركبتي، اعتقدت أن مكروها قد أصابك، تضاربت أنفاسك قرب يدي وأنا أتفحص وجهك، أذكر جيدا الغبار الرمادي على خديك وجبهتك والصوت الخافت لأسنانك المصطكة.
- أنا بخير، اهربي، المكان خطِر.
كنا نلهث، يدي التي حاولت رفعك فاقتك ارتعاشا، تأملت المحيط بنظرات دامعة للمرة الأولى بوعي شديد، حشود العامة تركض حولنا، يتساقط بعضهم كأحجار الشطرنج الخاسرة ثم يقومون، تقترب الحرائق منا رويدا وتتالى الفرقعات في نسق عشوائي يقترب ويبتعد ويحاصر الموت أحلامنا كسجن يزداد ضيقا مع الثواني.
- سنهرب معا وننجو معا، لا تخف، دعني أحملك!
- لا أستطيع! شعور الفزع المستمر، التهديد الذي لا ينتهي، الموت المختبئ في ظلالنا، لقد تعبت، تعبت من الخوف، أريد أن أموت.
اختنقت، استلقيت قربك وقد وهنت، حدقت في السماء بما طغى عليها من دخان ووهج برتقالي وحزن، سمعت طنين الطائرات المزعج ثم بكيت.
- أنا مثلك، تعبت من الخوف!
- غني بدل البكاء، الغناء انتصار على البؤس.
- صوتي قبيح!
- أقل رعبا من أصوات الحرب.
صمتنا ثم ضحكنا، ضحكنا كثيرا وامتزجت قطرات الدمع المالحة باهتزازات خدينا فاندثر الحزن. غنيت ونسيت لون السماء والضوضاء، نسيت الحرب، ولا أتذكر من المشهد اليوم إلا يدك تنكمش حول أصابعي وتربطني بك أبعد من الأبد.
- أين عائلتك؟
تنفست.
- لا أدري، ربما ماتوا. ماذا عنك؟
- كانت لدي حبيبة، وعدتها أن نتزوج حين يعم السلام. أنا هنا الآن. تظنين أننا ننجو؟
- وأحضر لكما أجمل باقة ورد، وأكون عرابة الأطفال ونحدث الأحفاد عن الأزهار التي تنمو تحت الركام فتشتد عبقا رغم الدماء.
أقيم جسدي رغما عن الهزل، أنفض الغبار عن ركبتي وأمد لك يدي كي تنهض، سوف ننجو معا، جسدين وروحين وذاكرتين.
إن جل ما أستطيع تذكره وأنا أحدق في الشوارع القابعة أسفل نافذتي الآن عيناك البراقتان كنجمتين قطبيتين وحيدتين في مجرة خالية وصوتك العميق كأصداء الرياح، إنك تركض حتى الساعة عابرا كل شوارع دريسدن ، كلانا نصيح كلما مرت فوق رأسينا الطائرات أننا لا نخاف من قنابلهم ومن صواريخهم ونارهم، نهتز كقشتين ضعيفتين إثر كل انفجار ونرقص لأنّا خالدون هنا شاءت لنا الأرض أو أنكرت. أحدثك عن خريطة العالم بعد الحرب وتعيد تفصيل الحدود ثم تخترع الأسماء الجديدة.
ذاك آخر ما أريد أن أحتفظ به منك، ضحكات وأناشيد وصمود. إنني أكتبك كي تبقى حيا حتى بعد القيامة وكي يعرف الأحياء أن الحرب مقبرة أحلام الدنيا فقط والدنيا حلم قصير المدى.
عشرون عاما مضت ولا أقول وداعا، أخالك تحب الورود التي أنتقيها لك كل عام وتحب حديثي عن الأزهار التي تمردت على كل القبور هنا وتفتحت ثم فاح منها شذى كشذاك.
25/08/2019.
أنت تقرأ
مقبرة الأحلام
Short Storyمن أجل كل الأحلام التي ماتت في الظلام، ثم أحيتها الكلمات في الفجر الجديد. تصميم الغلاف: جنود التصميم.