الحلم الثاني : الثورة الفرنسية

439 53 83
                                    

بعد اغتيالها المفاجئ في نهايات القرن الثامن عشر، وحين باشرت إيميليا نيفرو -شقيقتها الصغرى - بمهمة تنظيف منزلها المنزوي بإحدى الأحياء النائية بباريس بهدف إخلاءه، اكتشفت وجود صندوق فضي مزخرف تحت سريرها، وداخل الصندوق رسالة مكتوبة على ورق سميك ومعطر. ولقد كانت حادثة مثيرة للدهشة جدا، خاصة بالنسبة لامرأة تشبه أورورا نيفرو، متحجرة كقطعة من فولاذ، متمردة كزوبعة من نار.

" أيها الإنسان الجميل المضيء، أيها البعيد القريب، ويا صبي الروح.

تمر الأيام باهتة مملة حين لا أستنشق عبقك مع الهواء وحين تخلو روحك من صخبها ولو كان حزينا قاسيا. علمت أن حالك لا يتحسن رغم مرور الوقت، وأن الكربون يسبق الأكسجين في عبوره السريع نحو رئتيك وأنك تجاهد كي تبقى حيا. لم أرَ في حياتي أنثى مراوغة أكثر من الحياة، في حين أكافح صباح مساء كي أطفئ فتيلي وأحرق جسدي بعد أن غدت كل الصور التي تداهمني رمادية باهتة، يقتلك فرط الاهتمام بالتفاصيل. أتساءل أحيانا بيني وبيني، كيف أعطيك شيئا من تصلبي ومن عدم الشعور الذي يمنح حين لا يكون مبالغا حيزا من الراحة وغفوة للقلق.

لا ترعبني بياناتهم المهددة التي تراها على الجدران ولا بنادقهم التي تفتش عن جسدي ودمي تفتيش الكلاب السائبة ولا حتى النتيجة المؤلمة التي قد تلحقني بعد هذا الحراك الشعبي الذي أحاول أن أؤججه في شوارعنا الفقيرة، لكن في المقابل ترعبني فكرة أنك تقضي ليلك مرتجفا مرهقا، يجعلني هذا أمام لحظات الألم الفاجر أحدق في عين الله بجرأة وبدل أن أقول كف عني هذا الأذى أقول احمي روحه وأرح قلبه. يخيل إلي أن الله لا يرد لي طلبا وأنا أدعوه في لحظات العذاب القصوى ويخيل إلي أنه يستجيب سريعا حين لا يتعلق الأمر بي بل بك.

يحمل الله الأفراد المميزين ثقل الاختبارات القاسية جدا، يستخرج من بين ضلوعهم أجمل ما خلق فيهم. يضاهي الوجع الذي تقاسيه الأم كي يرزقها الله بإنسان حي بين ذراعيها ستين موتا مختلفا تقاسيها في لحظة واحدة، كيف تخاله يستخرج من قلب الإنسان المختار كيانا عظيما يصمد بعد الأرض والتاريخ؟ يحمله سبعين لونا من الألم وبعدها يخرج من بين كتفيه جناحين عريضين.

إنك تمنحني قدرا من القوة لو كانت حكوماتنا أشد دهاء لطاردتك قبل مطاردتي، ولا يمنح القوة إلا رجل عظيم.

المخلصة دائما، أورورا."

اهتزت أحياء باريس المهمشة بعد أن نشرت الجرائد المحلية نص الرسالة التي لم ترسل إلى صاحبها في موعدها المحدد بغية عرضها كامرأة لا تشبه ما تبديه من نفسها. على الضفة الأخرى، أرادت إيميليا أن تقول أن أختها لم تكن شيطانا ولم تكن كافرة بدين الكنائس ولم يخلو قلبها من الإنسان يوما. كانت امرأة فقط، تختزل شعورها كاملا في رجل واحد يبقيها آمنة وساكنة في الأعماق ثم تواجه العالم بصدر من حديد.

31/08/2019.

مقبرة الأحلامحيث تعيش القصص. اكتشف الآن