اعتدت أن أرى جدي يحمل صفحة صفراء ممزقة لمقالة من جريدة قديمة، يقرأ فيها كل صباح، يضمها إلى قلبه ثم يبكي خلسة عنا جميعا. حين مات جدي سرقت نص المقالة، خبأته في حفرة قرب قبره وزرعت فوق الصفحة اليتيمة زيتونة.
قد ينبت الحب هناك فيعم السلام.
" أمشط جدائلي البيضاء وأشاهد التجاعيد الغارقة على وجهي فتسكنني غيمة حزن ثقيلة،
لقد مر العمر حقا بدونك. ستون عاما عن النكبة وعن رائحة فلسطين وعن لعبة العروس والعريس في حقول الزيتون الخلفية. ستون عاما عن الكوفية ورائحة المقلوبة الزكية في شوارعنا والخبز والزيت والزعتر على سطح دارينا.ستون عاما لم أر حيفا وماتت فلسطين فوق بطاقات الهوية وصار الاحتلال على أراضينا أشد رسمية منا وأحق بماضينا وتاريخنا وتراثنا وذكرياتنا الأبية، أحق مني أنا من مواطن القلب الدفينة وصورك البعيدة وندائي المنطلق لاسمك ذي الرنين العذب.
كيف أقول للحرب أعيدي ما أخذت من عواطفنا ومن أحلامنا ومنا؟ أعيدي إلي فستان العروس المرصع وأعيدي العريس، بحة صوته وابتسامته وحنوه وما ابتلعته ضمن ما ابتلعت من الوعود الرقيقة والعهود. أعيدي لنا الزمن الذي تاه منا والوقت الذي لن يعود. أعيدي إلي عمر العشرين الذي انطلق بعيدا عن الحلم، وقبلة الحب الأولى، ومهري؛ غصن زيتونة ومنديل طرزته باسمك، والصبي الذي كان لابد أن يولد من صلبي وصلبك. أعيدي إلي ولو قبرا على جانبيه أزرع الياسمين وأبكي وأشكو وأحكي أوجاع القبيلة وأحن إلى القدس فأصلي فوق قلبك.
تزوجت بعدك، واقترن اسمي باسم جديد لا يشبهك، وسميت ولدي على اسمك لكنه لم يحمل شامة على خده ولم ينظر نحو السماء بعيني فارس لا يهاب ولم يرفع على كتفيه سيفا ولا بندقية ولم يغني من أجل الوطن الحر الذي لا يموت ولم يزرع مثلك زيتونة خلف داري وداره ولم يعقد حولها جديلة مني ومنه ولم يحبني يوما كأنني الحلم الذي إذا ما ضاع لا يعود.
كيف أقول للتاريخ تغير؟ أعد تشكيل الحروف، أسقطني هذه المرة في زمن مختلف لا حرب فيه ولا جور ، على أرض لا يترك فيها الأهالي منازلهم راحلين نحو الملاجئ ولا تموت فيها قصص الحب دون غضب وانفصال، ولا يضيع عليها الأحبة ولا يحكم القدر عكس الهوى ولا أفترق عنك لأنّا مضينا شمالا ومضيتم جنوبا.
لماذا تمجد تلفزيوناتهم صور العشاق الملونين وتذبحنا بنادقهم؟ هل كانت موسيقانا أنا وأنت أقل جمالا من عزفهم المصطنع؟ هل كنا أقل شأنا من أن نحب؟ هل كنت أقل جمالا وكنت أقل جسارة؟ لماذا تصفق أياديهم في قاعات السينما حين يقبل البطل البطلة وتحكم علينا سياساتهم بالاندثار؟ أم أننا كنا أشد حياء وكان جرما علينا أن نحب وأن نعيش وأن نحلم وأن نسكن منازلنا كالآخرين وأن نزرع على أرضنا سنديانة وتفاحة و حقلا من عنب؟
هل يمكن أن تخجل الحرب يوما فتعتذر؟ تبني لي قبرا عند قبرك إن كنت ميتا أو ترسم لي صدفة أشهق فيها شهقة الموت فتغسلني يداك من الحسرة والحنين؟
ستون عاما أمشط شعري، أحدق في وجهي، ولا أجرؤ على كتابة هذه الرسالة. يخيل إلي أنك لازلت حولي وأني مازلت أرسم لنا صورة ضاحكة على كل جدار. ستون عاما وكل ما أخافه أن يداهمني الفقد وتعود الحرب إلى قلبي تقتل ما نجا مني من لحم وعظم.
- انتصار الحريري، وصية موت. 3 سبتمبر 2008.
"03/09/2019.
![](https://img.wattpad.com/cover/198499577-288-k650368.jpg)
أنت تقرأ
مقبرة الأحلام
Short Storyمن أجل كل الأحلام التي ماتت في الظلام، ثم أحيتها الكلمات في الفجر الجديد. تصميم الغلاف: جنود التصميم.