خلا الطريق من الناس وعم الضباب من حولها لدرجة أنه كان يصعب لأحد أن يراها وهى تقف عند ذلك الجسر العالي، كانت تتطلع إلى زرقة المياه التى تضاهى لون السماء بدت وكأنها تطفو بين زرقتهما وتُحلق بأعلى السحاب بينما أنعكست صورتها على سطح المياه وبدت كامرأة ظلمتها الحياة، امرأة تلاشى تألقها، رغم بريقها الظاهري وجمالها النادر الذي يشهد به الجميع، إلا أنها غدت أمرأة ضعيفة، حزينة العينين، رفعت يدها وهى تمررها ببطئ على تلك السلسلة الذهبية الثمينة التي تُزين عنقها قبل ما تسحبها بقسوة بأناملها الرقيقة ممزقةً أياها ورمت بها بكل برود من أعلى جسر نهر هدسون دون أن ترمش حتى، أحست بالاختناق بروحها وغصة مؤلمة بقلبها وشعرت أنها بحاجة للصراخ والبكاء لكنها لم تبكي أبداً، تنهدت عدة تنهيدات عميقة وكأنها تحارب لتتنفس ورفعت كلتا يديها وهى تعدل من حجابها الأنيق بسبب حركة الرياح العاتية وتلامس برودتها كالصقيع وجهها الملائكي ليزيد من احمرار خديها وأنفها الشامخ، خبأت يديها الباردتين بين طيات معطفها الشتوي السميك وهى تلتمس الدفئ وتراجعت بخطوات هادئة عن حافة ذاك الجسر وأستدارت وهى تسير بعيداً وبكل خطوة تخطوها كانت تتسارع نبضات قلبها وتتسرب بداخلها خيوط الامل، كانت سعيدة.. سعيدة جداً، لقد تحررت منه وإختارت.. إختارت بيدها أن تحظى بالأمل رغم يأس قلبها فلا عزاء لها سوى الأمل وقررت أن تعيش أيامها مثلما هى بحلوها ومُرها وكلها ثقة بربها أن يكتب لها الأفضل.
"بداية الحكاية"
كان قد غلبها النعاس وأنزلق الكتاب الذي كانت تقرأه من بين أناملها وسقط على السجادة الصوفية بينما ظلت نائمة بعمق وكأنها طفلة لا تحمل أي هموم بالعالم وشعرها الكستنائي الطويل ينسدل على طول ذراعها المتدلية في خارج سريرها، فجأة أنقطع نومها الهانئ وأنتفضت من فراشها هلعاً حينما صدح صوت منبهها الصاخب بأرجاء غرفتها، مدت يديها وهى نعسة وعينيها شبه مغمضة وألتقطت المنبه وأطفأته وألقت رأسها على وسادتها مرة أخرى وهى تشعر بأغراء للعودة للنوم لكنها اختارت الا تفعل ذلك مذكّرة نفسها بأنها لم تعد في عطلة بعد الآن، فاليوم هو أول يوم بالعام الدراسي الجديد والسنة الأخيرة لها بالمرحلة الثانوية، أنزلت قدميها عن السرير وسارت على السجادة الناعمة التي تتوسط أرضية غرفة نومها المؤثثة بأثاث كلاسيكي وديكور فخم أنيق ومصمم بألوان الباستيل بمزيج من درجات اللون السماوي مع لون الروز الهادئ المتألق بشكل لطيف، فتحت الباب الزجاجي الذي يطل من غرفتها على الشرفة وإزاحت ستائرها المخملية إلى منتهاها حتى تتيح لأكبر قدر من ضوء الشمس بالدخول وقد أنعكس لونها الذهبي على حدقيتها الزرقاوين كبحر لُجى والتى ورثتها من جدتها كندية الأصل بينما راح الهواء المزعج يعبث بشعرها الحريري وتداعب خصلاته وجهها الناعم، أغمضت عينيها للحظة وهى تدفع خصلة من شعرها البني عن عينيها، وأستدارت على حين غرة بعدما وقع بصرها على تلك الصورة المُعلقة بجدار غرفتها والتي قد أنعكست أمامها خلال زجاج النافذة، كانت تلك صورة والدها الراحل، تمعنت النظر فيها بضعة ثواني وتدحرجت عبرة كبيرة حارقة من مقلتها اليمنى فاليسرى تبعها سيل عارم من الدموع الأليمة، مسحت عن خديها أثر الدموع وهمست بأنفاس متثاقلة وهى تدعو له بالرحمة والمغفرة، شعرت ببرودة نسيم الهواء الخريفي على وجهها لتتراجع عن الشرفة وتعود للداخل وهمت بإغلاق جميع النوافذ الزجاجية بأصابع مرتجفة من فرط اضطرابها، دلفت إلى حمامها الداخلي من باب بشكل قبة من الرخام الأبيض، أخذت حماماً دافئاً وتوضأت وأدت فرضها وشرعت في أرتداء زيها المدرسي وكان عبارة عن تنورة وجاكيت باللون الأسود وقميص باللون الأبيض بدت مكتملة الأنوثة حقاً ببراءة طفلة صغيرة، جهزت حقيبتها المدرسية ووضعت فيها كل ما تحتاجه لليوم، جلست على طاولة الزينة سرحت شعرها الذي يصل الى خصرها الرشيق وصففته على شكل ضفيرة وشبكته بدبوس في أعلى رأسها وأرتدت حجابها الساتر قبل أن تغادر الغرفة، نزلت إلى الطابق السفلي عبر الدرج الفخم من الرخام والحديد المزخرف والمفروش بسجادة طويلة مزينة بالألوان والرسومات الفنية، سارت عبر الردهة الواسعة كانت أرضها من البلاط الأبيض والرمادي بسقف عالي مضاء بالثُريات البرونزية اللون المصقولة بأناقة وتنعكس أضواءها على أثاث منزلها الفيكتوري الضخم، مرت عبر باب زجاجي يؤدي الى غرفة الجلوس التى بلا جدران ثم ممر قصير يفضي الى المطبخ وغرفة الطعام بنهاية الممر، دفعت بيدها باب زجاجي أخر ودلفت إلى داخل غرفة الطعام، لم يتسنى لها إلقاء تحية الصباح على والدتها إذ كانت منشغلة بمكالمة هاتفية هامة وهى تجلس مترأسة مائدة الطعام ومتأنقة ببدلة نسائية راقية للأستعداد للذهاب إلى عملها، جلست جود على يمين المائدة المزينة بشرشف مخملي لامع وفي نفس الوقت الذي دخلت فيه الغرفة كانت قد سبقتها بالدخول مايا مدبرة منزلها الكندية وهى تحمل صينية محملة بطعام إفطار خفيف وإبريق شاي باللون الأبيض ووضعتهم على الطاولة قبل أن تأتي نحوها وتسألها عما تحبه على الإفطار، فطلبت جود منها أن تحضر لها كأس من الحليب الدافئ قبل أن تعترض مايا بأدب وهى تضع أمامها طبق من الطعام:
_ أنتِ نحيلة جداً أنستي ويحسن بك أن تكثري من الطعام.
أصرت جود على موقفها ولم تتناول شيئاً من طبق الطعام الموضوع أمامها رغم شعورها بالجوع وأجابتها وأبتسامة باهتة مرسومة على شفتيها: أرجوكِ مايا هذا جُل ما أريده.
أومات المرأة الكندية بتفهم ولبت لها طلبها وقالت: إذاً دعيني أجهز لك علبة الطعام لتأخذيها معك للمدرسة.
أومأت جود بلامبالاة: أشكرك مايا.
أخذت تحتسي كأس الحليب الموضوع أمامها بهدوء وهى تستشعر عينا والدتها السوداوين اللتين تتطلّعان إليها فقد ظلت منتبهة لحديثها مع مايا بتركيز حاد منذ البداية رغم أنشغالها بمكالمتها الهاتفية، أضطرت جود أن تنظر بعيداً عن نظرتها تلك وبدى كما لو كان الوقت برفقة والدتها سيستمر إلى الأبد وقد بلغ بها الضيق وعدم الارتياح أشده كما لو أنها تجلس على برميل بارود سينفجر في أي لحظة، كانت تبدو والدتها علياء من الوهلة الاولى وكأنها أمرأة أرستقراطية قوية الشخصية صارمة الطباع الا أنها بالحقيقة أماً عطوف وعلى قدر بالغ من الرقة والحنان وإن كانت تؤدي دورها الأمومي تجاه أبنتها جود بشكل تحكمي، وفجأة وجدت جود نفسها وفي غمرة أنفعالها تجول ببصرها فى أنحاء قاعة الطعام بنظرة شاردة، تلك الغرفة بالغة الاتساع بصف النوافذ المستطيلة والأثاث المزخرف والسجادة الثمينة وتلك اللوحات التشكيلية الراقية التي تقبع بجدارن الغرفة وتمتد حتى بداية الممر حيث تقع غرفة الجلوس ذات الأثاث أبيض اللون وستائر زرقاء مفتوحة تكشف عن منظر الحديقة الرائع، تأملت جود كل شيء من حولها حتى أنها امتدت بنظراتها إلى ما وراء باب الغرفة الزجاجي حيث الردهة الواسعة، تأملت حتى الأنية البلورية الموجودة بمنتصف الردهة والتي كانت يضع فيها والدها دوماً الورود التي يقطفها كل صباح من الحديقة، خرجت من شرودها حينما أغلقت والدتها الهاتف بعد طول حديث ورسمت ابتسامة بهيجة وألقت تحية الصباح على أبنتها الصغيرة وهى تضع يدها علي خدها بحب، أجابتها جود بإبتسامة هادئة وعادت تكمل شرب كأس الحليب خاصتها ثم نظرت إلى ساعة يدها للتحقق من الوقت وإذ بها تجدها الساعة السابعة لتهم بالنهوض من كرسيها بسرعة وودعت والدتها على عجل وخرجت من المنزل وهى تضع حقبيتها المدرسية على ظهرها وركبت سيارتها الفخمة والتى كانت تعود بالأصل ملكيتها لوالدها رحمة الله عليه وقد خصصتها لها والدتها مع سائق خاص بالرغم من أن جود ماهرة جداً بالقيادة إلا أن والدتها لا تسمح لها بذلك الا بعد حصولها على رخصة قيادة بعد إتمامها الثامنة عشر عاماً، جلست بالمقعد الخلفي بأسترخاء وهى تستمع لتلك التلاوة المنبعثة من مذياع السيارة بصوت قارئ رخيم عذب، كانت الشيء الوحيد الذي يخفف على قلبها آلام التمزق والحزن واليتم.
اسندت رأسها على النافذة واغمضت عينيها وأنهمرت دمعة دافئة من عينها وهى تتذكر بحرقة والدها والذي مرت سنتين على وفاته، لا يسعها التصديق حتى الآن بأن والدها سندها وأمانها بالحياة قد مات ولن يعود أبداً، كانت ترى كل أيامها متشابهة جداً وأن عقارب ساعات حياتها تتحرك في الاتجاه المعاكس ويعود الزمن إلى الوراء مرة تلو الأخرى الى ذلك الوقت الذي تحطم فيه جزءاً من كيانها بوفاة والدها الحبيب، لقد خدرها الحزن والهم وقتل المرح في روحها وهى ما زالت في السادسة عشر من عمرها وفي عنفوان شبابها، تذكرت جود كيف كانت حياتها مختلفة جداً بوجود والدها، كانت تتمتع حياة رائعة مثالية إلى درجة غير عادية وقد أمتلكت ومنذ صغرها كل مقومات الرفاهية والبذخ أحبها والداها بشدة وحرصا على تدليلها وتحقيق كل طلباتها ورغباتها بالحياة لكن بذات الوقت قاما بتربيتها تربية صحيحة قائمة على القيم والمبادئ ونشأت منذ طفولتها على الالتزام دينياً وأخلاقياً، لهذا السبب كانت عائلتها هى نموذج للعائلة المثالية لأبعد الحدود، والدها محمد ينتمي لأم كندية وأب سوداني، درس في كندا من صغره وبعد تخرجه من الجامعة تحصل على وظيفة في شركة هندسية معروفة وقابل علياء وهى مهندسة معمارية أيضاً، أعُجب بها من أول نظرة لأدبها وأخلاقها وخاصة أنها بنت عربية في بلد أجنبي، تزوجا بعد قصة حب جميلة وعاشوا حياة زوجية سعيدة وبعد سنتين أتت على الحياة أبنتهما جود، وعند إتمامها عامها الخامس عادت عائلتها إلى موطنهم بإصرار شديد من والدها محمد حيث أراد أن ترعرع ابنته في موطنهم وتتطبع بطبائعه وتقاليده وعاداته.
بذلت جود جهدها لتوقف أنهمار الدموع من عينيها وغصة تحكمت بحلقها فلا تستطع الصراخ بسببها ولم تستطيع أن تأن بألم قلبها الجريح وهمست بصوت متقطع: " أشتقت إليك أبي.. أشتقت إليك كثيراً".
أنت تقرأ
حكاية جود
Randomوراء مظهرها البارد الهادئ، كان يكمن رجل واحد والذي سرعان ما وقعت في غرامه، وأنزوى قلبها بين جدران سجنه القاسي وقُضبانه، قلبهُا العذري ذاك الذي لم يرأف عليه بكذبه وانتقامه.