اقتباس ١

13.1K 293 198
                                    



.. استمعت للغناء و هي منتشية .. لا تستطيع تمييز الكلمات و لا معانيها لكنها ترى رجال و نساء هناك في عدد من عيطان القصب القريبة نوعا ما يترنمون بما يصلها من أنغام في تلك اللحظة السحرية من الصفا و السكون الذى تعيشه ..
نظرت للارتفاع الشاهق للبيت الكبير و المندرة بالتبعية و ابتسمت عندما تذكرت قصة تلك الأميرة ذات الشعر هائل الطول و الذى كانت تدليه للأمير ليصعده ..
جمعت شعرها الغجرى من خلف ظهرها للأمام في أتجاه كتفها و مالت نحو السور متقمصة دور الأميرة ربانزل في احدى قصص الأطفال التي كانت تقصها عليها أمها كل مساء .. و قفز الى فكرها خاطر .. هل احتفظت بشعرها بهذا الطول ربما يتحقق الحلم و يكون شعرها و سيلة الفارس الذى حلمت به طويلا في الصعود اليها في سجن حياتها الرتيبة .. انفجرت ضاحكة لهذا الخاطر .. ضحكة صافية رنانة تشبه ذاك الصباح الدافئ .. و تلك الأشعة البكر للشمس المتسللة من خلف غيوم الليلة الماضية ..
ضحكة طازجة .. منتشية جعلت ذاك المضجع في سلام على احدى الأرائك الموضوعة تحت السور المشترك المرتفع بينهما يقفز فزعا و هو يعتقد انه يتهئ ضحكاتها الوثابة ..
انتفض بكل قوته ليتطلع لمصدر الضحكات حتى يتأكد انه لا يهزى و لم يصبه الجنون بعد جراء ثلاث ليال و أربعة ايّام لم يطالع محياها فيهم .. ايّام عجاف ..
تسمرت عيناه على ما تفعله بشعرها و هي تدليه من فوق السور ضاحكة و جن جنونه ..
همس في تضرع :- الصبر من عِندك يا رب ..
كان على استعداد ليقف عمره كله يتطلع اليها في موضعها بهذا الشكل الساحر الذى يفقده صوابه .. لكنه لم يحتمل المزيد و غض الطرف متنحنا و هو يستشعر انه يخرق عزلتها المقدسة ..
انتفضت هي في ذعر و خبأت شعرها أسفل مئزرها و اعادت احكام حجابها خلف رقبتها هامسة في احراج :- عفيف بيه ..!؟..
تنحنح من جديد رغبة في تصفية صوته المتحشرج تأثرا لمرأها هاتفا:- حمدالله بالسلامة يا داكتورة .. جلجتينا عليكِ..
ابتسمت في رقة :- الله يسلمك .. تعبتكم معايا انت و الخالة وسيلة ..
هتف معترضا :- متجوليش كِده .. المهم انك بخير ..
ثم استطرد عاتبا برقة غير معتادة على مسامعها و هو يتوجه للسور الخارجي للسطح يقف في مواجهة الجبل البعيد كأنه يناطحه :- بس انتِ ايه اللى خلاكِ تطلعى هنا و انت لساتك تعبانة .. !؟..
ابتسمت و هي تتطلع بدورها للبعيد هامسة :- الغنا ده هو اللى طلعنى الصراحة .. جميل برغم انى مش فهمه هم بيقولوا ايه .. بس واصلنى إحساس الفرحة فيه قووى ..
تطلع اليها في تعجب لحظى ثم ابتسم ابتسامة من احدى تلك الابتسامات النادرة الظهور على ذاك الفك الصلب و التي تحرك شيء ما داخلها لا تعرف كنهه هاتفا:- احساسك فى محله يا داكتورة .. ده موسم كسر الجصب و دايما مواسم الحصاد مرتبطة عندينا كصعايدة او حتى الفلاحين ف بحرى بالافراح .. بنستنوا الحصاد عشان نتچوز او نچوزوا عيالنا .. الاغنية دى مرتبطة بالفرح مع موسم كسر الجصب و الخير اللى هاياجى من وراه ..
انتبهت لكل كلمة قالها و كأنها تعويذة سحرية ينطق بها .. نطقها بحب و اعتزاز لتلك الأرض التي تحمل عرق جده و رفاته و ستضم رفات أبناء النعمانية جميعا من بعده .. اشارت لغيط القصب حيث يجتمع الرجال لكسره هاتفة :- طب هم بيعملوا ايه دلوقتى و ايه عربيّات السكة الحديد اللى بتمر دى..!؟..
ابتسم مؤكدا :- دى مش عربيّات سكك حديد .. دى عربيّات مصنع السكر .. بيجمع الجصب عشان يروح ع المصنع .. و الباجى يطلعوا بيه على العصارة ..
ثم أشار لبناية عتيقة على أطراف الأرض البعيدة هاتفا :- شايفة المبنى الملون اللى على طرف الارض دِه ..!؟.. هي دى العصارة .. دى بنودوا فيها چزء من الجصب عشان نعِملوا منيه العسل الأسود .. اكيد دجتيه .. حتى جبل ما تاجى هنا ..
أكدت بابتسامة صبت في دمه ملايين اللترات من العسل المصفى و هي تهتف :- اه .. مفيش احلى منه بالذات مع الفطير المشلتت من أيد الخالة وسيلة ..
انفجر ضاحكا على غير العادة هاتفا:- واضح انك چعانة يا داكتورة و نفسك مفتوحة تعوضى الأيام اللى فاتتك من فَطير الخالة وسيلة ..
قهقهت بدورها و لم تعقب للحظات و أخيرا هتفت مستفسرة مشيرة لغيط القصب :- ها و ايه اللى بيحصل بعد كده ف العصارة ..!؟..
أكد بهدوء :- خلاص كِده .. طلع العسل و مبجيش الا الچلاب ..
هتفت متعجبة :- جلاب ..!؟.. يعنى ايه ..!؟..
ابتسم متطلعا اليها و هو يقترب من السور المشترك بينهما :- الچلاب دِه .. حلاوة بنعملوها من بواجى السكر شكلها مخروطي و لونها مايل للخضار شوية .. و ..
صمت فتطلعت اليه مستفسرة لتجده مترددا ثم مد كفه الى جيب جلبابه ليخرج لها ورقة ملفوفة .. فضها أمامها هامسا :- هو دِه ..
مدت كفها اليه متطلعة في تعجب ثم استأذنت في فضول :- ممكن ادوقه.!؟..
أكد بايماءة من رأسه .. فقضمت قطعة صغيرة لتهتف مستمتعة :- ده حلو قووى .. ..
أكد في سعادة مقهقها :- ما هو كله سكر .. مش جصب ..
اعادت اليه قطعة الجلاب و التي تردد في اخذها لكنه أخيرا مد كفه و أخذها يطويها و يقذف بها من جديد في جوف جيبه ..
سألت في أريحية متهورة :- طب و حضرتك محتفظ بيه ليه في جيبك.!؟..
غامت ملامحه للحظات و طلت من عينيه نظرة حزن عميقة شرخت وعاء البهجة الذى كان يحتوى روحها منذ دقائق .. ندمت انها سألت و لو كان بإمكانها استرجاع الزمن لثوان حتى تُعقل كلماتها قبل طرحها لفعلت اتقاءً لنظرة الحزن الدفين المطلة من عينيه و التي اربكتها كليا ..
لكنه للعجب أجابها :- يمكن عشان الچلاب دِه الحاچة الوحيدة اللى بتفكرنى بأمى الله يرحمها ..
صمت ثقيل شملهما للحظات حتى استطرد هو بنفس الصوت الموجوع :-  لما كانت عوزانى اعمل حاچة و انا مرضيش تجولى اعملها و انا اچيب لك چلاب..
ابتسم بغصة مستكملا حديثه المعجون بالشجن :- و كان ردى عليها .. مش عايز .. هخلى چدى يچبلى من العصارة .. لو انى واعى لحالى دلوجت بعد فراجها لكنت جريت عليها خدت كل الچلاب اللى كانت بتعطيهولى بيدها .. مش عشان أكله .. لاااه .. عشان اخبيه بين ضلوعى و اطلعله بعد ما غابت و معدش بجى خلاص في چلاب تانى من يدها ..  
شعرت بمرارة كلماته المغموسة بالشوق الفاضح لأمه و شعرت بنفس الغصة و هي التي فقدتها و تشاركه نفس المصاب و نفس الألم الحى الذى لا يندمل ابدا بفراقها ..
كادت ان تطفر الدموع من عينيها تأثرا لكنها كانت اكثر وعيا لتدرك انه لن يستطيب تعاطفها و ربما يندم على ما أطلعها عليه من اسرار دفينة تعد سبق لم يحدث و ربما لن يتكرر لذا ابتلعت دموعها و هتفت بلهجة حاولت إكسابها بعض من مرح :- طب قبل ما ننزل نفطر عشان انا فعلا جعت قووى .. سؤال أخير ..
ابتسم و تغيرت الملامح الخشنة من جديد لتصبح ألطف و ارق :- اتفضلى اسألى ..
اشارت من جديد للغناء الذى كان على أشده بالأسفل هاتفة في فضول:- هم بيغنوا يقولوا ايه ..!؟..
عاد من جديد يتطلع للمشهد الساحر أمامه و تغيرت فجأة نبرة صوته لتصبح اكثر دفئا هامسا منغما كلماته يخبرها كلمات الاغنية الدائرة بالأسفل :-
يابو اللبايش يا جصب ..
عندينا فرح و أتنصب ..
چابوا الخلخال على كدِها
نزلت تفرچ عمها ..
جال يا حلاوة شعرها
يسلم عيون اللى خطب ..
يابواللبايش يا جصب ..
عندينا فرح و أتنصب
جابوا الجميص على كدِها
نزلت تفرچ عمها
جال يا حلاوة شعرها
تسلم عيون اللى خطب ..
و صمت فجأة ..ليتطلع اليها ليجدها في عالم اخر مبهورة  بما تسمعه من كلمات بصوت ذاك الذى ظنت يوما ما انه رجل عتيد القسوة لا يعرف الا لغة القوة ..
سال مستفسرًا عندما طال صمتها و شرودها :- عچبتك ..!؟..
هتفت منتفضة لسؤاله :- جميلة قووى ..
أكد متنحنحا في احراج :- اغانى فلكلور جديمة بتهون ع العمال التعب .. و بعدين هو في حد بيلبس خلخال عندينا ف الصعيد دلوجت..!؟..
هتفت في تحسر طفولى متهور:- خسارة ده انا كان نفسى ف واحد ..
لم يعقب .. بل شملها بنظرة لم تعرف لها تفسيرا و أخيرا هتف بجدية :- اشوفك على الفَطور يا داكتورة .. زمان خالة وسيلة حضرته و بدور علينا .. بعد إذنك .. و حمد الله بالسلامة مرة تانية ..
اندفع باتجاه الباب المفضى للداخل ليختفى في لحظات حتى انها ظنت انه ما كان موجود من الأساس و كإنها كانت تحادث طيفه .. و ليس عفيف النعمانى بشحمه و لحمه ..
           *******************

#اقتباس_١_جلاب_الهوى

 اقتباسات جلاب الهوى   حيث تعيش القصص. اكتشف الآن